المعطف

حيدر الحدراوي

[email protected]

اخبرني صديقي انه سوف يسافر الى أوربا , عن طريق التهريب , مقابل مبلغ كبير من المال , وسألني فيما اذا كنت ارغب بالسفر معه , ترددت كثيرا , فلا املك المال الكافي لذلك , لكني املك ارضا زراعية كبيرة , قد غزاها الجفاف , واصبحت عديمة الفائدة , حيث لا امطار ولا مياه سقي , ولا دعما من الحكومة , ناهيك عن المواد المستوردة , فهي ارخص ثمنا , وربما افضل جودة .

فقررت بيع الارض , بثمن جيد , وعزمت على السفر , حزمت حقائبي , ودعت اهلي واصدقائي , ودعوا لي بالسلامة , الا ان ابنة عمي اهدتني معطفا قديما , لا يزال في حالة جيدة , ربما يعود الى جدي السابع عشر , قد احتفظ به عمي طوال تلك الاعوام , واخبرتني ان الجو بارد في اوربا , واني سوف احتاج اليه , اضافة الى ذلك , ان المعطف عديم الفائدة في اجوائنا الحارة , لم اقبل به في بادئ الامر , لكني اخذته بعد اصرار عمي ! .

انطلقنا في رحلة لا تخلو من المخاطر , اشبه ما تكون بمغامرات سندباد , حتى وصلنا الى سواحل فرنسا , فقررت البقاء هناك , بعد ان تعرفت على ثلة من الجزائريين , وتابع الاخرون طريقهم الى دولة اخرى .

ابتسمت لي الدنيا بما رحبت , وحالفني الحظ كثيرا , فقد حصلت على عمل جيد , وتحسنت احوالي المادية , وامتلكت ما لا يمكنني امتلاكه في وطني , من بيت وسيارة حديثة وغير ذلك .

انغمست بل انصهرت مع المجتمع الفرنسي , حتى كدت انسى اني عربي , حتى انتابني شعور ان انسى وطني , وامحو كل ذكرياتي , واتخلص من كل شيء يذكرني فيه , فقطعت الاتصال بأهلي , وتخلصت من كل ما جلبته معي من حاجيات , الا المعطف ! .

لم ارتد المعطف الا قليلا , فقد كان قديما , وقد اشتريت معطفا افضل منه , لذا قررت ان ارميه في النهر او البحر او أي مكان بعيد .

تمشيت حتى توسطت جسرا كبير , توقفت اتامل النهر , فطويت المعطف , ورميته بهدوء , وادرت وجهي عائدا , لكني ما ان وصلت الى حافة الجسر , ناداني شخص من خلفي , التفت اليه , فأذا برجل شاب , فيما يبدو انه كان سباحا , يحمل المعطف بيديه , يقطر منه الماء , وقال لي ( تفضل سيدي .. هذا معطفك ! ) , لقد ظن ان المعطف قد سقط مني لا اراديا , وقد شاهده يسقط من اعلى الجسر , بينما كان هو مع شلة اصدقائه يسبحون , فظن انه قد صنع معروفا لي , لم يسعن الا ان اقول له ( Merci beaucoup  ) .

تصورت ان الموضوع عاديا جدا , فقررت هذه المرة ان القي المعطف في حاوية النفايات , فرميته تلك الليلة , وفي الصباح , حيث كنت اروم الذهاب للعمل , استوقفني جاري ( لوفييه ) , ومعه رجلان من عمال البلدية , يحملان المعطف , واخبرني ان العمال اعتقدوا ان هذا المعطف قد رميّ سهوا , وهم يبحثون عن مالكه , وقد اخبرهم جاري ( لوفييه ) انه قد شاهدني ارتديه عدة مرات , فلا بد ان يكون المعطف لي , فلم يسعن الا ان اقول لهم (Merci beaucoup  ) . 

وفي يوم من الايام , قصدت متنزها بعيدا عن منزلي , جلست طويلا هناك , اتامل الطبيعة , فنهضت من مكاني , وتركت المعطف هناك , وعدت الى المنزل , ظانا ان هذة المرة اني قد تخلصت منه والى الابد , لكن في اليوم التالي , طرق باب البيت , ففتحت الباب , فأذا انا برجل شرطة وهو يحمل المعطف , وطلب مني استلامه وان اوقع على ورقة الاستلام , فسألته كيف عرفت ان المعطف لي ؟ , وكيف عرفت عنواني ؟ , فأخبرني ان في المعطف بطاقتي الشخصية ,  كنت قد نسيتها في جيب المعطف! .

علقت المعطف على الحائط , وتأملت فيه كثيرا , ودارت في راسي العديد من الامور , ربما كان فيه سحرا , عملا من اعمال زوجة عمي , التي تريد ان تزوجني ابنتها , او ربما ان في المعطف سر قد غاب عن ذهني , او ربما اني لم احسن التخلص منه ! .

فكرت طويلا في كيفية التخلص منه , حتى تبادر الى ذهني ان ادفنه في حديقة المنزل , فأخذت المعول , وحفرت حفرة , والقيته فيها , واهلت عليه التراب .

في الصباح , استيقظت على صوت صفارات سيارات الشرطة , التي احاطت بالمنزل , وطلبوا مني الخروج اعزلا من السلاح , وان ارفع كلتا يداي على رأسي , واتجه نحو الباب الرئيسي بهدوء وترو , وهكذا فعلت , فهرع الي عدد منهم وكبلوني بالسلاسل , واصطحبت جارتي العجوز امراءة تبكي بمرارة ورجل يحاول ان يهدئها ويخفف عن مصابها ومعهم ضابط الشرطة الى مكان الحفرة , فأمر الضابط رجاله بالحفر , واستخرجوا المعطف , وقف الضابط مندهشا , وامر بجلبي الى المكان , وقال لي ما هذا ؟ , اين الطفل ؟ , فأجبته , أي طفل ؟ , لم اكن اعلم بأمر طفل قد اختفى من الجيران , وقد شاهدتني العجوز احفر في الحديقة , فظنت اني قد دفنت الطفل هناك , فسارعت لابلاغ الشرطة ! .

ذات يوم , جلست انظر الى المعطف , فراودتني شكوك كثيرة حوله , فقلت في نفسي ( يمكن بيه جني ) , ( يمكن روح جدي السابع عشر بعدهي بيه ) , ( لو يمكن بنت عمي سوتلي سحر , حتى ما انساها ) , فأحضرت عدة انواع من البخور , واغلقت جهاز انذار الحريق , اطلقت البخور , وشرعت بقراءة بعض العزائم الطاردة للجن ( انصرف ايها الجني لا تطنطن براسي وتغني... الخ ) , وبعدها تلوت عزائم لطرد الارواح ( انصرفي يا روح جدي فلا مقام لكي فيها .. اتركي المعطف واتركيني فقد سئمت العيش في بلدي .. لا ماء , لا كهرباء , لا تعيين , لا امان .... الخ , دعيني اعيش في هذا البلد , وانسى كل يوم بائس قضيته في بلدي , دعيني اطوي صفحات الالم والشقاء واتركها خلفي , الوحا الوحا العجل العجل الساعة الساعة بارك الله فيكم وعليكم ) , وما ان فرغت , بدأت بتلاوة عزائم السحر ( ابطلت كل عمل و سحر وعقد وكيد وضرر و شبشبة سواء كان من خيط او حجر او عظم او شعر او ماء او تراب او يحرق او يعلق في الهواء او يدفن في الارض او في المقابر ابطلتك بــ ( بسم الله الرحمن الرحيم , قال لهم موسى القوا فلما القوا قال موسى ما جئتم به السحر ان الله سيبطله ان الله لا يصلح عمل المفسدين ويحق الله الحق بكلماته ولو كره المجرمون , وقدمنا الى ما عملوا من عمل فجعلناه هباءا منثورا , بل نقذف بالحق على الباطل , ان الباطل كان زهوقا , انما صنعوا كيد ساحر , ولا يفلح الساحر حيث اتى , فألقى السحرة سجدا , قالوا امنا برب هارون وموسى ) ,          

تصورت اني قد تخلصت من أي مؤثرات روحانية قد تكون موجودة في المعطف , فسافرت الى بلجيكا , فقد قررت ان اترك المعطف هناك , وهكذا فعلت , وعدت الى البيت , بعد مضي اسبوع , نسيت امر المعطف تماما , حتى جاء اليوم الذي وجدت فيه طردا بريديا قرب باب المنزل , فدخلت المنزل احمله , وفتحته , يا للهول ! , فقد وجدت المعطف , رميته على الارض , الى اني سرعان ما تناولته , وفتشت جيوبه وكل زواياه , باحثا عن أي شيء قد يكون السر في عودته , وبعد جهد جهيد , وجدت ورقة صغيرة , ملفوفة بشكل جيد , قد اخفيت بأحكام , فتحتها , فقرأت ما مكتوب فيها (( بلادي وان جارت عليّ عزيزة )).