كيف تموت الحمير
سامي حسن الحمش
ذهب صديقي لأداء خدمة العلم ، واستلم مهمته وكانت أن يؤدي الخدمة في حرس الحدود ، لقد عين كرئيس لمخفر به أربعة عناصر يأتمرون بأمره ويمشون على هواه ، وكانت المهمة الأساسية المناطة به هي منع تهريب الأغنام من بلدنا إلى البلدان المجاورة.
وأخذت الأيام بالمرور عليه كل يوم أطول من سابقه ، كان صديقي العزيز كل يوم يتخذ لنفسه صورة مختلفة ، فتارة هو قائد تاريخي من أيام الدولة الأموية مرابط على تخوم الإمبراطورية العربية ينتظر إيعاز من أمير المؤمنين بالتقدم ودك حصون الشرك ، وتارة يظن المنطقة التي يقبع بها دولة وعليه بحكم موقعه كرئيس لهذه الدولة أن ينسق مع أركانه ويسعى لتوسيعها فالجماهير التي أودعته ثقتها لا ينبغي أن يخيب آمالها وعليه على الأقل أن يحصل لها على حق النقد بمجلس الأمن أسوةً بقبرص.
(أستميحكم عذراً فصديقي ليس لديه معلومات دقيقة بسبب تخلف جهاز استخبارا ته نوعاً ما) على أية حال مرت الأيام عليه ومر عليها.
وفي أحد الليالي أحس صديقي العزيز بفطرته أن هناك ما يريب بالحما ، فبث رجاله الأشاوس يتقصون فأفادوه بعد ثوان أن هناك جيشاً عرمرماً يتقدم غير هياب نحوهم مكون من آلاف الأغنام والمهربين.
لم يتحمل القائد هذه الإهانة وأشار لجيشه المدجج في السلاح أن تقدموا ! فهب الجميع فيهم هو رافعين عقيرتهم بصيحات النصر المبكرة التي رافقها رصاص صبوا جامه على الأغنام.
المهربين وقعوا فريسةً للخوف ونكسوا على أعقابهم مخلفين ورائهم قطيعاً شل من الذعر باستثناء عدد من الكباش التي لا تهاب شيئاً وحمار يعتبر نفسه أشجع مخلوق على ظهر البسيطة ، لم يتمكنوا من أسره إلا بعد معركة ضارية فقد ذنبه على إثرها.
كان عدد الأسرى بالضبط ثلاثمائة وخمسين رأساً وهو كامل القطيع الذي كان قد حاول التسلل ليبيع نفسه في البلد المجاور ، إضافةً للحمار آنف الذكر وهو رمادي اللون لم تر عين أجمل منه قط ، وهو مواطن بالأصل ويمتلك شارباً بدا بوضوح أنه يستهلك الكثير من وقته للعناية به وقد شذب بطريقة مدهشة.
وكان هناك بعض الجرحى في صفوف العدو حاول الجندي الذي عينه صديقي بمرتبة طبيب معالجتها بيد أنه لم يفلح ففضل إراحتها ومن منظور إنساني وتحويلها إلى أكل.
وهكذا قام صديقي بإصدار مرسوم جمهوري – من وجهة نظره – بتسليم الغنائم إلى القيادة العليا التي تتبع له ، لكنه قرر استبقاء الحمار الذي كما أسلفنا رمادي اللون ولم تر عين أجمل منه قط.
وكان ذلك طبعاً بعد أخذ رأي الشباب وتعهدهم بمقاسمته الماء الذي يجلب لهم أسبوعياً ، حيث أنه أشار عليهم بأنهم سيستخدمونه عند القيام بإرسال التقارير بدلاً من السير على الأقدام.
وأما رأي الحمار فقد أهمل تماماً لأنه أسير حرب من جهة ومن جهة أخرى فهو لا يعدو كونه حماراً ومن المعيب الاستئناس برأيه.
النتيجة أن الجميع تآلفوا مع الحمار وتآلف هو معهم واقتنع بما آل إليه حاله فالدنيا بجميع الأحوال فانية ولا يجوز للمرء أن يستسلم للأسى والأحزان.
ومن جهة الشباب فقد أوفوا بالتزامهم معه وقاسموه الماء رغم تململهم من جرّاء ما يستهلك من الماء ، فقد كان يشرب يومياً مقدار ما يشربه خمسة رجال بلغوا الثلاثين أو بصيغة أخرى أربعة رجال تتراوح أوزانهم بين الثمانين والتسعين "كيلوجرام" ناهيك عما يحتاجه لحمّامه اليومي ، أما طعامه فقد أطلقوا حافره لانتقاء ما لذ وطاب من كويمة القمامة التي يعف عنها الأصدقاء ، هذا فقط للتأكيد على ما وصلت إليه الحريات في هذا المكان ، لقد كان راضياً عنهم وراضون عنه .
إلى أن أتى يوماً المفتش المسؤول عن نقاط الحدود في هاتيك المنطقة ، حين شاهد الحمار يتيه أمام الخيمة بعنجهية استشاط غيظاً ( المفتش ) فكيف لهؤلاء أن يكون لهم حماراً بينما زملائهم بالمراكز الأخرى لا يملكون ولو هرّاً ! حتى أنه هو نفسه لا يملك حماراً !
فاستشار نفسه وأدلى باقتراح حاز على أغلبية ساحقة من قبله ونال مطلق رضاه ؟
كان الاقتراح أن تُشكل محكمة ميدانية برئاسته هو كونه أعلى رتبةً بالموجودين ، أومئ بأمره فجئ بالحمار مقيدّاً من ذنبه "المقطوع كما نوّهنا سابقاً" مع ملاحظة أنهم لم يقيدوا يديه لأنه وكما هو معروف للكل ما زال هذا النوع من الكائنات يدب على أربع فهو يستعمل يديه بالمشي "بمساعدة قدميه طبعاً".
وكانت عيناه معصوبتان كي لا يخرّ مغشيّاً عليه من هيبة المحكمة الموقّرة إضافة لكونه تقليد عريق.
حاول الحمار الاستفسار عما يجري ، لكنه أخُبر بأنه لا يحق له الكلام ؟ لكن محاميه يستطيع ذلك كما تقتضي الأعراف ، ولما أنه لا يوجد محامين في هذه البقعة النائية بالإضافة للغة الحمار الركيكة بعض الشيء ولا تتماشى مع لغة الحضور فقد أُرتج عليه والتزم جانب الصمت وذلك كعلاقة منطقية متعدية ، فمن المعيب أن يطلب الكثير.
وأخيراً وبعد صمتٍ طويل لأكثر من عدّة دقائق …. سبقه مداولات وجدل طويل للمفتش مع نفسه قرر وبالإجماع ما يلي :
أولاً: إدانة المتهم بانتحال شخصية حارس حدود دون تكليف رسمي بذلك مما نال من هيبة الحرس.
ثانياً:الحكم عليه موتاً بالرصاص لتجرئه على ذلك.
ثالثاً: اعتبار القرار وجاهياً ونافذاً وقطعياً وو…
أومئ للصديق العزيز بتنفيذ الحكم وفوراً على مسيرة عشر دقائق من الخيمة على ضهر هضبة موالية قبالة نقطة حدودية للبلد المجاور الشقيق.
مشى صديقي العزيز وهو يتذمر من المفتش كيف لم يأخذ رأيه ؟ ألا يعرف بأنه يملك كماً هائلاً من القدرات التي تؤهله لأن يكون قائداً تاريخياً أو على الأقل رئيساً لدولة تمتلك حق النقد ؟
ياله من جاهل ذاك المفتش : قال لنفسه ، كيف أطعته ؟ لكن في المرة التالية سأريه من أنا وسأوقفه عند حده.
مشى الحمار وصديقي العزيز ولم يرض أن يعتلي صهوته "أقصد صديقي" لإحساسه بالذنب لأنه استبقى الحمار ولم يسلمه مع باقي الغنائم الحربية التي خاض من أجلها حرباً ضروس مع جحافل المهربين.
وكان طوال الطريق يربت على رقبته "رقبة الحمار" ويمسد له عرفه كأمٍّ رؤوم إلى أن وصلا لبغيتهما ، لم يكن هناك أحداً على الإطلاق سوى الأفكار التائهة ، فجالت بخاطره فكرة ما كانت لتخطر ببال أحدٍ من باقي فئات الشعب ! لم لا يطلق الحمار للبلد المجاور ؟ لينجو بوبره بصفة لاجئ حيواني ، يا للفكرة العبقرية "قال في نفسه مغتبطاً" مبدياً في الوقت نفسه إعجابه بتفكيره المتقدم الذي من الصعوبة بمكان إيجاد من يجاريه به.
ثم بادر بحل الحبل من جيد الحمار كي لابترك لحرس الحدود في البلد المجاور أي مستمسك لطرده كأن يعتبره مهرب حبال مثلاً . أجل لقد أراد نجاة الحمار ، أراد ذلك بكل قوته.
حل القيد لكن الحمار لم يتحرك كما كان يتوقع قيد أنملة ، بل فتح منخريه بأقصى ما يستطيعه حمار على وجه البسيطة ! كان يستنشق عبير بلاده وثمة هاتف أخبره بأنها آخر مرة يقف فيها ببلده ملقياً بهمومه وراء صهوته.
لكنه أطال الوقوف والمفتش ينتظر عودته ليبشره بموت المجرم.
فما وجد بداً من ضرب الحمار على فقراته لكن برفق ليحثه على المسير لكن الحمار أبى ، حاول بشتى الطرق فما أفلح.
فاستل الجلاد سلاحه وأطلق قذيفتين بين قوائم المسكين مما سبب له هلعاً عظيماً فخبّ يم الحدود ، لكنه حالما وصل إلى كومة الرمل التي تدل على انتهاء حدود وبدء أخرى بين هاتين الحضارتين وقف والتفت نحو صديقي مستنكراً ، عجباً إنه لا يريد الهجرة فلم يجبر على ذلك ؟
لقد عمل مع المهربين لفترةٍ طويلة ويبدو ذلك جلياً في شاربيه ولطالما تعرض للخطر وعبر الحدود مراتٍ ومرات لكنه أحس ههنا بأنه لن يعود لبلاده مجدداً ! وهو في حالة موافقته وعبور الحدود بلا صاحب وبدون بطاقة شخصية مما يعني وضعه أمام خيارين فإما نيل حق اللجوء وإما المصادرة وإجباره على العمل واستنزاف خبراته وهو ما لا يتحمله عقل أي حمار بالدنيا.
فسكن وكأن على أذنيه الطير؟ أنا حقيقةً لا أدري بم كان يفكر حينها رغم أنني الكاتب فلا شك بأنكم تعون صعوبة الولوج لعقل حمار.
الذي يهمنا أن الوقت قد تأخر كثيراً وصديقي لم يعد يقوى على الانتظار فعلى الحمار الهرب أو أنه سيقتل ، وطالما أنه قد رفض الخيار الأول فلم يعد ثمّة مهرب ….
صديقي لا يريد أن يغدو قاتلاً لكنه كذلك لا يريد أن يسجن ، فسدد بندقيته تجاه خادمه مسترجعاً شريط الذكريات وأطلق بيدين مرتجفتين رصاصة استقرت بظهر حمله كثيراً ، تأرجح الحمار و اهتز لوهلة، ثم رنا بطرفه لصديقي العزيز الذي أقسم لي لاحقاً بأنه لن ينسى تلك النظرة ما دام حيا.
لقد أحس الحمار أن هناك خيانة – على الأقل من وجهة نظره – فهو لم يفعل ما يسيء زد على ذلك أنه لم يبق بمحض إرادته ؟ وبقي واقفاً وكأنه تمثال الحرية لا يدري ما الذي يتوجب عليه فعله فهو لم يقتل من قبل عدا أنه لم يصب برصاصة واحدة طيلة حياته ، كما أنه لم يشاهد من قبل حماراً يقتل ! فاختلط عليه الأمر هل يجب أن يبقى واقفاً أم يترنح هو لم يكن يدري – وحقيقةً نحن هنا بالذات يجب أن نتلمس له العذر على الأقل اعترافا بخدماته الجليلة ومآثره وألا نعاتبه على جهله بهذه الأمور – أما الجلاد الذي استنفذ كل المهلة إضافةً لتسلل الملل إليه فقد قرر حسم الموقف وأطلق رصاصتين أخريين أصابتا الحمار بقلبه الكسير عندها فقط خر ساقطاً متخبطاً بدمائه ومنح ثوان قليلة قبل أن يلفظ أنفاسه وفكر بأنه وقد عرف ماذا يعني أن يطلق المرء الرصاص على حماره ، فكر أنه في المرات القادمة سيعبر الحدود فوراً فيما لو ترك له الخيار كما هذه المرة.
صديقي العزيز فكر أيضاً – رغم أنه يصلح لأن يكون قائداً تاريخياً أو حتى رئيس دولة تمتلك على الأقل حق النقد – فكر بأنه في المرات القادمة لن يتردد من أجل حمار وسيطلق النار على أي هدف ، ثم أنه لا يدري فيم هذه الضجة فالقتيل مجرد حمار كباقي حمير العالم لا يعرف مصلحته بل أنه وكما رأينا لا يعرف حتى كيف يموت.