السلطان الصغير
حسين حسن السقاف
سكن الليلُ .. كلُ شيء مع الليلِ سكن ، الإنسان ، الحيوان، الماء الذي كاد يصبح جماداً ، أوراق الشجر التي أمسى بعضها كالمحارات .. لم يعُد يُسمعُ إلا نباح كلبٍ هنا وعواء ذئبٍ في البعيد ، أو حفيف أشجار تغازلها رياح الشمال الباردة ، تجردها من دثارها تنـزع ما تستر به جسمها ،تسقطه على سيقانها ،تدحرج هذه الأوراق ،تذروها هشيماً ، ثم تجرفها على الأديم مع تيارها .. يحول كل ذلك دون سماع خرير ماء غدير ( الصّفاة ) ،وهو المنحدر الصخري الذي تلتطم به مياه الوادي في القرية فتحدث هديراً تعودتُ بأن لا أنام إلا على سماعه.
منـزلي الصغير عبارة عن غرفة كبيرة الحجم نسبياً تطل على بهوٍ مفتوح غير مسقوف ، أشبه ما يكون بالحَوش ، وبجانبها حمَّام صغير .. البردُ في داخل الغرفة لا يقل عن خارجها كثيراً ، لانعدام وسائل التدفئة ، ولتعدد الفتحات في النوافذ حتى بدت وكأنها غرابيل لا نوافذ .. غرفتي هذه مليئة بالأثاث فكلُّ ما لدي من أثاث هو داخلها ، ففيها يكون النومُ وبها مكتبتي وأتناول فيها طعامي ، واستقبل بها ضيوفي .
اضطرني العملُ ذلك المساء لأن آوي إلي فراشي متأخراً، لعلي آخر من يأوي إلى فراشه ، كان البرد شديداً وكانت القرية تغط في نوم عميق .. فور وصولي الغرفة بادرتُ بخلع ملابسي وارتداء ملابس النوم ، ويمّمتُ صوب فراشي ، أسدلتُ على جسمي دثاري محاولاً بذلك إنهاء فصل مسرحي ثقيل.
السرير الذي أرقد عليه مصنوع من الحديد ، وعندما يلمس أي جزء من جسمي تلسعني برودته ، كنت حريصا بأن لا أضيع أي دقيقة ، يجب عليَّ النوم بأسرع ما أمكن ، حتى أصحو مبكراً لإنجاز أجِندة يومي القادم.
عند ما أكون تعباً ، فإن النوم سرعان ما يتسلل إلى أهدابي ،ويطبقها على بعضها ، في عناق يستمر إلى الصباح ، غير أنني وفي تلك الأثناء وعندما بدأ النوم مغازلتي ،اسمع نقراً على سريري ، فكرتُ بتجاهله والاستسلام لطارق النوم الذي كاد أن يتمكن مني ، غير أن النقرات زادت حدتها وشدتها حتى تركني النوم وولى .. طارق النوم هذا يكون معي شديد الغيرة لا يريد أحداً يشاركه الاهتمام أو مجرد حتى التفكير في غيره، فإذا ما فكرت في شيء آخر هجرني إلى غيري ممن يكون أكثر جدية في طلبه ، وأكثر استعداداً له، ويتركني فريسة للكرى.
لازال النقر مستمراً ، إنه يؤرقني .. شعرتُ بشيء من التوتر .. لم تعُد عينايَ تغمضان .. هجرني النومُ .. دارت أفكارٌ بمخيلتي لابدَ أن أجدَ ناقر السرير هذا ، وأوقفه عند حده ، نهضتُ من سريري ، أدرت عجلة مصباح الزيت، لأنشر ضوءه الخافت في الغرفة التي تتعطش زواياها المظلمة إليه، أبعدتُ كل ما هو تحت السرير في حركة تمشيطية علَّني أجد الناقر للسرير .. ولكن محاولتي باءت بالفشل.
عدتُ إلى سريري ، استلقيتُ عليه أحاول إطباق جفني اللذان، أصبحا كقطبي المغناطيس المتنافرين بعد أن كانا متجاذبين ، بعد جهد جهيد انطبقا أو كادا .. ثقُلَ جسمي ، انتظم شهيقي وزفيري، إنه النوم عاد ليزورني ، ليمنحني فرصة ثانية .. عادت النقرات لتكون أكثر شدة ، في حين كنتُ على وشك الاستسلام لطارق النوم .. فتحتُ عينيَّ اللتين ظلتا مفتوحتين، بل أصبحتا محملقتين لفترة شعرت بأنها كانت طويلة .. جفناي لم يعودا يرغبان بأن يلتقيا، لم يعد أحدهما يثق في الآخر، كأنه قد وضع على عينيَّ قطرات ( الأتروبين ).. وكأن النوم قد هجرني بعد إن صفعني .. ولسان حاله يقول : تباً لكَ .. لا تطلبني ثانية إلا عند ما تكون جاهزاً ومتفرغاً لي ...إن لدي الكثير ممن لزمني تنويمهم وهم بانتظاري .. قفزتُ من سريري ، أدرتُ عجلة المصباح الزيتي لينشر ضوءه الخافت البخيل .. أبعدتُ كل ما كان تحت السرير متفحصاً كل قطعة .. شد اهتمامي خرمٌ وجدته في حقيبة رحلاتي .. قربتها من وجهي وقربتُ المصباح لأتبيّن الخرم .. قفز من الخرم فأر ٌصغيرٌ اتخذ سبيله في الغرفة الواسعة حيث لا يصل ضوء المصباح .. أدركتُ إنني أمام تحدٍ لعدو غاشم ، لا يرحم بل يتلذذ بتعذيب ضحاياه بطريقة ماهرة .. أو أنه يمازحهم ممازحة ثقيلة .. لا تقوى عليها أعصابهم .. عندها تذكرت نصائح وحكايات جدتي عن الفار الذي لا تذكره إلا مادحة له، رغم إضراره في المنـزل خشية انتقامه .. كانت جدتي عندما تُسأل عن شيء خربه الفار تقول: بل خربه السلطان ..فهي تدعوه بالسلطان .. كانت - رحمها الله- تكره أن تكون في مواجهة مع السلطان خشية بطشه وجبروته .. لعلها كانت تدرك عدم تكافؤ معركة من هذا القبيل ، لذلك فهي تنصحنا بأن نخاف من كيد السلطان ، أنا أيضا أخشى معركة من هذا القبيل، وأخشى كيد السلطان ، ولكن المعركة فُرضت عليَّ والعدوان طال فراشي... والكريَ جرَّح جَفني .. فلا خيار إلا أن أجلي غرفتي من هذا المعتدي..
قمت بإخراج ما في الغرفة من الأثاث إلى البهو المفتوح .. حقيبة الإسعاف المتجولة ، الكتب ، السجاد ،السرير، أواني وأدوات الأكل .. أبقيتُ الغرفة عارية تماماً من الأثاث ، لا أعيد شيئا إليهاً إلا بعد تفحُصه وتفتيشه تماماً كما يفعل الجنود الذين يقفون على مداخل ومخارج المدينة ليفتشوا الداخلين والخارجين ، كل ما أبقيته في الغرفة هو سجادة ( تبريزية ) من الصوف بُنِّي اللون أشددتُ لفها على بعضها حتى صارت كلفافة ( السيكار الكوبي ) كانت في ركن الغرفة .
أصابني البردُ والسعالُ جراء خروجي إلى الهواء المفتوح ،لا ضير في ذلك، لقد عدتُ إلى فراشي بمعنوية القائد المنتصر الذي يشعر بأنه يجب أن ينام قرير العين بعد أن تخلص من عدوٍ كان يؤرقه .. كم تمنيت لو شاركتني جدتي فرحة انتصاري هذه لأخبرها بأن النصرَ أصبح حليفاً لا عدو .. غير أن نوبات السعال والعِطاس ، تمنعان جسمي من الاسترخاء والنوم ، كنت فرحاً بانتصاري في المعركة الأخيرة. رغم شراستها. . قلت لنفسي من يضحك هو من يضحك أخيراً.
عندما كنت أتنقل بين هذه الأفكار متصيداً للنوم ، متجسساً مواطنه كان النقر يعود إلى سريري ثالثةً .. عندها أدركتُ أن انتصاري على السلطان لا يعدو عن كونه سراباً وإن الفار لازال جاثماً على صدري ،يتحداني في عقر داري ، خسرت معاركتي معه وكان هو المنتصر ، خارت قواي من تكرار نقل أمتعتي من الغرفة إلى البهو ومن البهو إلى الغرفة والعكس ، أدركت أنه ليس بمقدوري مواجهة هذا الخصم اللدود ، هل أهادنه ؟ ، كيف يكون ذلك ؟ .. إنه لا يرحم .. كيف يكون ذلك بعد أن وضعني في دائرة حقده ومكيدته.
بدأ نور الفجر يشعشع في القرية .. وبدأت العصافير ابتهاجها بانتصار النور على جحافل الظلام .. أما أنا فقد قمت للصلاة مثقلاً منهكاً، كانت معنوياتي وقوايَ منهارة وخائرة .
خرجتُ من منـزلي باكراً على غير هدى لا ألوي على شئ ، يتملكني شعور بوجوب مغادرة المنزل، لعله شعور المهزوم الذي عليه أن يغادر مسرح المعركة التي هزم فيها.
طوال الطريق كنت أُقنعُ نفسي بأن هذه المعارك لم يكن لها صلة بالواقع إنها مجرد أضغاث أحلام وكوابيس مزعجة علَّني بذلك أعيد ثقتي بنفسي ، كنت أعزي نفسي حيناً آخر بأن الفار ليس عدوي لوحدي، ولست أنا بأول ضحاياه ولا آخرهم ، بل هو عدوٌ لكل اليمنيين ، أليس هو الذي هدم سدهم وفرق جمعهم حتى لقد قيل فيهم ( تفرقت أيدي سبأ )!!.