احتجاجًا على ساعي البريد
هشام بن الشاوي
*الثلاثاء:
أيقظه رنين جرس الباب المزعج. الطارق على عجلة من أمره، لم يجد غير ساعي البريد يمتطي صهوة دراجته النارية، ويغادر. لم يسأله إن كان الطارق، التفت ناحية البيت المجاور، ظنّ أنه أخطأ في العنوان. أحصى ذهنيّا من ينتظر مراسلاتهم.. مجلة وعدت بإرسال ثلاثة نسخ لعدد نشرت فيه قصته، صديق طلب منه عنوانه البريدي دون ذكر السبب، لعلّه يوّد مفاجأته بكتابه الجديد، فعادة، يهدي الكتـّـاب زملاءهم إصداراتهم.
تناهي إلى مسامعه صوت أذان الظهر، أحسّ بالتعب، وبقايا نوم يداعبه، بعد سهرة إبحارٍ عنكبوتيّ.
*الجمعة:
على السرير، فوجئ بكتابين، تفحصهما بمودة، تساءل: أيّهما يستحق أن يكتب عنه؟
أخوه الأصغر، الملتحي اعترض على متابعة مسلسل عربيّ بتغيير القناة، لم يستسغ مشاهد العجوز، المراهق مع تلك الممثلة الجميلة. كمشاهدٍ، يدرك أنه مثل عنكبوت يحاصر فريسته للإيقاع بها.. الحلقات ممططة، ويمكن الاستغناء عن مشاهد وحوارات كثيرة. يهتم بالمسلسل تعاطفا مع البطل الضحية السجين، ولأنه - أيضًا- يؤمن بموهبة كاتب السيناريو، يتغاضى عن تلك المشاهد.
يعرف أنه ينتمي إلى سلالة الهراء، ولا رأي له، ما دام الأخ الأصغر هو من اشترى جهاز "ساتيلايت". من حقه أن يبدو بمظهر الابن الفاضل والبار أيضًا، وأن يتابع نجم الأئمة وهو يتباكى، بدل مشاهد الحب والغرام. بصوت خفيض قال له: " شاهده وحدك، إنه يُعاد بعد منتصف الليل". تساءل في سرّه: "كيف أتحمّل مشاهدة أناس يصلون التراويح، وأنا على مائدة الإفطار؟ أحس كأنني في مأتم ."!!
قام إلى المطبخ، أعاد بقية الأكل، وغادر، دون أن ينبس بكلمة.. لم يتألم أكثر، بعد يوم حافل بالدموع.
* إحباط:
أحس بطعنة تخترق قلبه، حين قرأ رسالة إلكترونية، تردد كثيرًا في الردّ عليها، فليؤجل لحظة ذبح قلبه بسكين البوح، حتى يستعيد سكينة دواخله.
دوّن رؤوس أقلام على كرّاسته، عن كتاب صديقه وهو يتصفح مزق الكتاب، ويتتبع أرقام صفحاته.. ليس عيبًا أن يعترف بأنه فاشل في كل شيء إلا في الفشل، لهذا يتربع القهر على عرش قلبه.
أغلق الجهاز، دخل عليه الأخ الصغير، أخبره بضرورة إيجاد حلّ للكتب التي تصله، وبأنه ذهب مع ساعي البريد لاسترداد كتاب يوم الثلاثاء من عند الجارة:
- لقد كانت مستاءة.. ساعي البريد رمى الرسالة في شرفة بيت الجيران، عن طريق الخطأ، قائلا بأنه لن ينتظر طويلا عند الباب.
-ليس معقولا أن أعلق صندوق بريد على الباب، مثل علافة في رأس بهيمة، هذا ما ينقص! تلك الجارة المخبولة، نسيت أنني كنت أقوم بأشغال البناء في بيتها، وبأبخس الأثمان، وهذا كان يغضب أصدقائي البنّائين، لأنه ذلّ للمهنة، وهي تقطر طيبة وعذوبة، تكاد من فرطها تذوب القلوب.
- قالت: ذلك اليوم رميتم البصل، واليوم كتابًا. هذا غير معقول... المجنونة!.
الحقودة، تحبّ أن يكون أبناءها - فقط- بخير. ابنها يدرس الأدب الإنجليزي في أمريكا... ألا تعرف اسمي الكامل؟ ماذا كان سيحدث لو أرسلت إليّ الكتاب يومها؟ ما ذنبي إن رمى أبناء أخوالي الأشقياء بصلا متعفنا فوق سطح بيتها؟!.
*تداعيات:
قبل أسبوع، وصلته رسالة إلكترونية من زميلة، كتبت أنها تحتج دائما في مكتب البريد على عودة الكتب إليها، وبدون جدوى..
توصلَ برسالة من مكتب البريد، حرص على أن يصطحب معه بطاقته الوطنية، للإدلاء بها عند الضرورة. بعد طول انتظار- بسبب التوقيت الصيفي- وتزامن حضوره مع صلاة الجمعة.. بلّغه أحد الموظفين أن المراسلة غير مستوفية المبلغ، وعليه أن يدفعه قبل استلامها، خمّن أنه ذلك الشيك الضائع، الذي بحث عنه في كل مكاتب البريد بالمدينة، وكل موظف يحيله إلى إدارة أخرى.
بعد أن التقطت الموظفة أنفاسها، سألها عن الظرف البريدي.
همس لنفسه: "كيف أدفع مبلغًا، أحتاجه إليه من أجل وجبة سمك على شاطئ البحر، في أحد مطاعمه العشوائية الرخيصة؟ لو أرسلت الكتاب على شكل مطبوع، سيكون أقل تكلفة...غبيّة".
- لا أريده.. أعيدوه إليها. تعوّدت أن أتوصل بكتب، دون أن أدفع درهمًا، وأحيانا، لا أقرأها. من تكون؟... ماركيز! أعيدوه إليها.
- سنرسله إلى العاصمة، إلى قسم المحذوفات.
قال لأخيه بقلب منفطر:
- أنا منذ أكثر من شهرين، وأنا أنتظر (شيكا) من إحدى المجلات.
لم يجد بغيته على الشاطئ، لم يدرِ كيف نسي أن الجمعة يوم عطلة الصيّادين. في أوراش البناء تعودوا على ألا ينتظروا باعة السردين المتجولين بعرباتهم المدفوعة.. البطالة أنسته كل شيء سوى الحزن، الإحساس بالتفاهة، اللا جدوى، وتلك النظرات الحارقة من أبيه.
استوى واقفا، أمسك الكتابين... مزّقهما وهو يرتجف، ورماهما في زاوية الغرفة.
*استدراك:
قالت:
- زميلتك ستفرح كثيرًا، لأنك كتبت عنها. لمَ لمْ تكتب أننا تشاجرنا البارحة، و لمْ تتـّصل بي اليوم؟!.
عفوًا، أيها القارئ الفضوليّ، تلك أشياء تخصّنا. لكن هل هذا سبب كافٍ لأن يكون يومي حافلا بالدموع؟!.