الأطياف الثلاثة

من أدب السجون

زكرياء بوغرارة

أديب مغربي معتقل رأي

1

سفر الرؤيا

حلم الأمس يعود دوما....

إنَه في أغوار نفسي... وكلَما أوغلت في النسيان.. يطفو الطيف ليذكرني ما دفنت من أسفار الماضي...لقد فشلت في نسيان الماضي الذي دفنته إنَه ينتفض من الأجداث سراعا ويعود بالأطياف من جديد

يرفرف طيف الحزن فوق سماء أحزاني المتلبدة.. يثقل كاهلي ويخنقني حتى يأخد مني الجهد... ترى هل سيطاردني ذلك الطيف إلى آخر نفس في الجسد العليل المكدود....؟...أم أنه سيختفي و إلى الأبد....

أوَاه كم يجدد الطيف العابر ... على نفسي  من مرارات الأسى وحزن الماضي بكل تلاوين الأحزان الجارفة والجارحة... إنه ينكش في ذاكرتي عميقا فيبدو الجرح المتدفق بالدم والصديد...

كأنَه وليد اليوم......

الطيف العابر كنقار الخشب يدق طبول الأسى والذكريات في أعماقي.. وينقر فوق رأسي... لقد تحوَل الطيف إلى هاجس داخلي أصيل..

إنني في دوَامة تتقاذفني من زمن بعيد....

أحس بطيفها وهو ماثل أمامي لا مفر منه مرَات تزورني كل يوم باسمة وعابسة

مقبلة ومدبرة فرحة مستبشرة وحزينة منكسرة شاحبة كأوراق الخريف او مزهرة كريحانة من جنائن الورد.......

ولكنني كلما طالعت ذلك الطيف ... أقف مشدودا مبعثر الأفكار فارغ الفؤاد إلا منه إنه يظللني كالشجرة الوارفة... وألوذ إليه ككهف عميق غابر ولكنني في كل الأحوال لا أحسَ بالانقباض أو الامتعاض... عندما أراها في أحلامي ورآي...

ولكنه طيف موجع ينكَؤ الجرح الدامي .... ذلك الطيف الذي أراه من المكان القصي يحمل لون الأسف والندم والأسى والحسرة والأنين.

خذلني الطيف عندما رفرف فوق رأسي بجناحي طائر ثم اختفى في غمار السماء.... خذلني الحلم البعيد ذلك تبدد كفقاعات الهواء الزائغة.. تحول إلى أضغاث أحلام وكوابيس مزعجة تخزني بأشواكها في كل مكان من جسدي وتصيح بالذكريات في وجهي تنكش في العمق والأوجاع.

خذلني القيد الذي في يدي والزنزانة التي تعتصرني....

خذلني الصوت المبحوح في أعماقي وأخاديد ذاكرتي ووجداني...

 2

سفر السجن والحرية

لا أدري منذ متى وأنا جالس هنا تحت سقف الزنزانة أحلق في سماء أحزاني وتأملاتي الصامتة والمكتومة والمتأوَهة الخفيظة ..

يصبح الصمت داخل القبو طقسا إعتياديا.. يكاد لساني أن يصاب بالصدأ وأنا أبتلعه طيلة سحابة اليوم لا أستعمله في الليل والنهار ....

المنفردة تعني العزلة إنها رحم يحمل جنين المعاناة والقهر وديعة ويمتد الألم لشهور أو سنوات قبل أن يكون المخاض بالحرية المستحيلة

السجين السياسي لا يغادر العتمة إلا في حالة واحدة .... الموت

أنا هنا..... في القبو منذ سبعة سنوات...

الحرية كلمة نسيتها ... إنني أعيش السجن ولا شيء غير السجن.. اصبحت مخذرا بالسجون ...تسكنني كما أسكنها.... ترى كم أحتاج من الزمن لأعبر إلى عالم الأحياء ... عالم الأسماء والطرقات والحياة .

هنا لاشيء سوى الأرقام والزنازن والوجوه الكالحة والأقبية والظلمة المهيمنة مع عتمة شديدة مملوءة بالكآبة والترهل...

إنفجر في رأسي شيء مخيف .. مرعب ومقزَز أشعرني برغبة جارفة في القيء والغثيان .. إنها لحظات مقرفة جداااا...إنه شيء مخيف تذكرته فجأة .. أحسست بالإنقباض و الإختناق الذي يجثم على صدري يزداد في قوة نبضاته وخفقاته..... كانوا أمامي يزيدون على الأربعة وجوههم كأديم الأرض ... صفحات مقت وغضب ولعنة ... وقفوا ينتظرون كبيرهم كان قصير القامة بعيني فأر ... رمقني بعين تطفح غلَا... وأعطى أوامره للجلاوزة... إندفعوا صوبي دفعة واحدة وهم يصيحون في صوت واحد أجش....

 إخلع السروال........

ياللهول... تفصَد جبيني بحبات من العرق زادتني الخرقة السوداء التي وضعوها على وجهي إحساسا بالإختناق لكنني كنت أختلس وأتلصص من الشيفون ملامحهم وحركاتهم البهلوانية... كان ذلك الثقب بوابتي لمعانقة الصورة ..

أي هول هذا الذي أراه في الوجوه وأسمعه من جلبة المكان...

وقفت جامدا متخشبا جردوني من ثيابي أصبحت خزيانا.... إنه الخزي الذي جللني..... لاول مرة في حياتي... أجبر على نزع ملابسي.....

الآن بدأت القيامة ... إنهم يجردونني من المخيط والمحيط ويتأهبون للعذاب.......

قال أحدهم بعنجهية

 قرفص

جلست القرفصاء والجلبة حوالي تزداد... الصراخ والحركة والأصوات....

عاد الحاج كبير الجلاوزة صاحب العينين المميزتين بالخبث والحيلة والمكر .. أشار إليهم بيده إشارات .. ثم مضى كالطيف.. بعدها أقبل الجلاوزة نحوي وأنا لا أزال مقرفصا ... قال أحدهم آمرا

 أكْحُبْ

كان جوابي الصمت والدهشة إنني لا أفهم ماذا تعني أكْحُب ...؟

صاح الآخر وهو يقهقه

 أك حُ ب يعني اعمل هكذا .. ثم افتعل السعال بقوة كأنه نهيق حمار... عرفت حينها أنني سأكْحُبُ على طريقة الجلاوزة كحبْتُ لأوَل مرَة كان سعالا هو مزيجٌ من الأسى والحرقة والحسْرة... كلَما سعلتُ بقوة كان الجلاوزة يضربونني على ظهري بعنف...لهم فيها مآرب أخرى......

قال الحاج الكبير...

 خذ وه فغلَوه ثم إلى الزنزانة 72 أدخلوه...

مضوا بي في موكب جنائزي صامت ... إلى العتمة الباهرة....

3

سفر الطيف

من كوة الزنزانة كنت أطلَ على العالم الخارجي أرى في الصبح قرص الشمس وهو يلتهب إلتهابا وفي المساء أقف متأملا لحظات الغروب الهادئة

القبو المقيت و الزنزانة باردة وصنبور الماء لا يكف عن إرسال قطراته في الجردل... قطرات تخترقني كالرصاصة المكتومة الصوت...

كل ذلك لا قيمة له عندي لقد فقدت الإحساس بالزمن والمكان... إنَ الحياة مظلمة قاتمة ... أظلَ أنتقل بعيني من مكان إلى مكان... هناك في الأفق يتخيل لي طيف أعرفه أشعر بالضيق .. فأرسل زفراتي الحرى....

البارحة رأيتها ...... في منامي كنت أركب حافلة مزدحمة بالناس مع أني امقت الزحام ..بعد عناء وجدت مكانا شاغرا ألقيت جسدي على أول كرسي وإرتخيت فجأة وجدت طفلا يقبل نحوي ويجذبني ... إنه يقف أمامي ذلك الوجه أعرفه صفحة وجه ياسر ... كأني أراها أمامي في اليقظة ... سحبني إلى مقدمة الحافلة وهو يشير بأصبعه يحثني على المسير فجأة وجدتها...... كانت تجلس في مقدمة الحافلة كانت بحجابها الرمادي المألوف لي وجهها المشرق المشرَب بالحمرة صاف أصيل... إرتمى ياسر في حجرها... رمقتني بنظرات ذات معنى تأملتها فإذا بها شاحبة الوجه ... لكنها هي... كأنها لم تتغير قط ولم تنحت السنين تضاريسها في رقعة وجهها.... إنصرفت وأنا ملتزم بالصمت ... الصمت السيد المطاع .... دائما ينصرف العشاق انصرافهم الصامت........

أفقت على آذان الفجر كنت أشعر بغير قليل من الإنشراح لقد زارني طيفها من جديد... نفسي التي فقدتها ولا أزال أنشدها ... ها هي ذي ترفرف مع أطياف الماضي وأسراب الطيور وهي تفزع من أعشاشها وتصرخ في السماء.

فتحت صنبور الماء لأتوظأ فشردت للحظات ... كان الماء وسيلتهم للتعذيب كم كان قاسيا ذلك المشهد المقرف وهم يوهمونني بالغرق.... الماء والغرق والشيفون اللعين الصابون الماء الذي ابتلعته حتى كادت نفسي أن تزهق......

الماء الذ ي اصبح عدوااا....

في لحظات الإختناق... الإستنشاق والإستنثار... عذاب عذاب وألم لا يطاق... أما جلسات الكهرباء فجحيم وعذاب وغصة من الألم العميق.... يطول بي الشرود وأتغلغل فيه كما يتغلغل الطائر ا لمحلَق في غمار السماء وكبدها...

ولا يزال بصري عالقا في اتجاه الطيف والتيه والسراب.

هلوسات مجنونة وألم كالجرح النازف بالدم والقيء والصديد ... وأعجب ما أعجب من أمر نفسي أنني في رحلة الشقاء داخل مربع العتمة لم أكن أبكي قط من القهر كنت أشرد فقط على أي شيء له ذكرى في أعماقي وربما أشرد على غير شيء... بدأت الأطياف تراودني في اليقظة خُيَل لي يومها أن عارضا من عوارض الجنون قد لحق بي وخالط عقلي... كان خوفي يشتد واضطرابي يزداد ذلك اليوم جاء كبير الجلاوزة في العتمة كل الجلاوزة حجاج  هكذا يزعمون

ربت الحاج على كتفي قال بكلمات مسموعة إصطنع فيها الأسف

 أقولها وأنا أشعر بالأسف والأسى يؤسفني جدا أن تكون هاته نهايتك....

لقد إخترت الجهة الخاسرة  نحن الأقوى  نحن الرابحون دائما في الرهان

المخزن يدو......طويلة..........

ثم مضى واختفى كأن الأرض إبتلعته

ذلك الطيف الآخر زارني ذلك المساء رأيت خالد رحمه الله خلود الإسلام وعزته

بوجهه المشرق وبسمته الملائكية الصافية كان يبتسم .... تكفيني إبتسامته لتزودني بالقوة والعنفوان ومولدات الإيمان....

خيَل لي أنه يهزني هزا عنيفا وهو يقول

 إننا نبتنا معا في تربة واحدة........

ثم إختفى .. نفضت عن كاهلي غبار الألم وإستعنت بالركن الشديد... يومها بكيت في محراب الطهر والصلاة بكيت كثيرا حتى تطهرت أعماقي من الأعماق ثم لذت للنوم...

رأيتُ أطياف .... الأطياف .... كلهم كانوا معي يمدون إلي أيديهم يبتسمون وجوههم مشرقة ناظرة مستبشرة...وعندما فتحت عيني طالعت وجوه الجلادين عليها قترة... و ذلة لا تخطؤها العين...

قال كبيرهم..سترحل اليوم

أشرف علينا جلاَد آخر وهو يبتسم بخبث وسخرية

 الحمد لله على سلامتك......

كانت آخر الكلمات التي ودَعونا بها بعد رحلة من العذابات وشهور مضنية في الجحيم....

أرسلت زفراتي من جديد كان الماء يتدفق حتى غمر المكان...

أتممت وضوئي وقد جثمت الذكريات فوق صدري...

قلت وأنا أغمغم

 ستنفجر لمة الظلام من جبين الفجر

أليس الصبح بقريب.....

بعد الصلاة إستلقيت في المكان القصي من الزنزانة لأخلد للنوم وقد أقلقت الأطياف مضجعي.. قبل أن أرحل إلى عالم الغيب والشهادة سمعت هاتفا يردد في أعماقي.." لا خير في حياة يحياها المرء بغير قلب ومبدأ

ولا خير في قلب يخفق بغير...حب...... "

انتهى