الوليمة
ناديا مظفر سلطان
واحد، اثنان، ثلاثة.... تابع العد حتى بلغ الأربعين، أغلق الصندوق الخشبي ، أقفله بإحكام ، تنهد بارتياح وهو يفرك يديه برضا وسرور.
تمدد على سريره وأخذ يعد الألواح في السقف الخشبي . ما لبث أن غلبه النعاس ، فاستسلم إلى سبات ناعم لذيذ .
أحس بوهج حار يلسع جبينه ،كانت أشعة الشمس تتدفق من الشباك ، هب واقفا، هتف: يا إلهي إنه الضحى .
كان من عادته أن يستيقظ كل يوم في البكور على صوت بطّته ، وهي تبيض بيضتها الذهبية .
مضى على هذا الحال أربعون يوما ، ما عدا اليوم ف ماذا حصل ؟
هرع ملهوفا إلى مكان البطة ، فلم يجدها . استبد به القلق، فانطلق بجنون يفتش أرجاء المكان . لم يدع شبرا إلا وتفقده ، دون جدوى .
انقضت ساعات وهو يبحث عنها في الدار، في الحظيرة ، في الحقل . أدركه الإعياء فاستند إلى السور كي يرتاح قليلا .
خطر بباله فجأة أنها ربما فرّت إلى مكان ما ، فهو لم يطعمها منذ أيام ، و ما قبل ذلك ما كان يطعمها إلا النذر اليسير. فهل تكون حقا قد تمرّدت عليه ، وأعلنت العصيان ،بل هل ستجرؤ أن تمنع عنه ذهبها اليومي؟
استحالت لهفته وقلقه فجأة إلى نقمة عارمة ، فاستشاط غضبا .
صاح بأعلى صوته: هذه البطّة الحقيرة ألا تعلم أنني أستطيع سحقها بضربة من عصاي ، اندفع حيث عصاه الغليظة، فتناولها وأخذ يلوح حانقا .
أراك غاضبا يا صاح .
لم يتنبه إلى وجود جاره صاحب المزرعة المجاورة ، كان يحرث الأرض وابنه يساعده.
بطّتي هربت !
هتف الاثنان بانزعاج: حقا؟
تلك التي تبيض ذهبا؟؟؟ سأل المزارع الكهل.
أطرق الفلاح صامتا ، تنازعته مشاعر غاضبة ، لا تخل من حسرة .. وشيء من الندم
تمتم بصوت خافت ، وكانه يخشى أن يسمع: يبدو أنها كانت جائعة فهربت.
أجاب الكهل: ولكن هذا ليس مبررا كي تتمرد عليك أنت تعلم قانون المزارع :" الطاعة للمالك" ،
والعصا لمن عصى !
ابتسم الابن الشاب بهدوء وهو يزيح عمامته قليلا كي يمسح العرق المتصبب من جبينه: ما الفائدة منها إذا لم تعد تمدك بالذهب ؟ ما عليك إلا أن تذبحها . أخرج من جيبه مدية حادة .
أستطيع أن أساعدك بشرط أن تدعونا أنا ووالدي للوليمة!
ضحك الكهل والتمعت عيناه الثاقبتان بنظرة ماكرة .
صاح قائلا: في هذه الحال دعوا الأمر لي ولا تنسوا أنني الوحيد الذي يمتلك بندقية . التفت للفلاح: حسنا سوف نساعدك ولكن ....
قاطعه الفلاح :اتفقنا أنتما مدعوان للوليمة .
كان الذئب يربض في الجوار مدّ قوائمه ، وأغمض عينيه ،و هو يحدث نفسه بهدوء: حسنا هذا يعني أن باب الدار لن يكون موصدا كالسابق، سأعثر على البطة بسهولة ، وألتهمها في غفلة من هؤلاء الحمقى الثلاث.
في المساء أوى الفلاح إلى فراشه باكرا وقد فارقه الغضب ، شعر فجأة بالحزن والأسف .
تمدد في فراشه ، وأخذ كعادته يعد الألواح الخشبية قبل النوم ، عندما لمح فجأة شيئا ما كأنه ريش أبيض هبّ واقفا وقد امتلكته نشوة الظفر، هرع إلى الخارج ، فأحضر السلم الخشبي ، وصعد درجاته بسرعة البرق والعصا بيده ، خانته وضعية السلم ، فهوى إلى الأرض وشج رأسه وسالت دماؤه.
سمع الكهل وابنه الضجة فأسرع الاثنان إلى المكان أشار الفلاح إلى السقف حيث تختبئ البطة
سدد الكهل بندقيته ، وأطلق النار، فأصاب جناحها . بينما استل ابنه سكينه كي يجهز عليها .
ازدادت البطة التصاقا بموضعها ، زحفت على الدعامة العرضية ، صادفتها فجوة في الجدار صغيرة ، ولكن كافية كي تحشر نفسها فيها فاختبأت.
كان الذئب لازال يحوم قرب الدار، وما إن شم رائحة الدم ،حتى وثب إلى المكان ظنا منه أنها الضحية المرتقبة.
بوغت الجميع لمرأى الذئب . سدد الكهل بندقيته ، فانقض عليه الحيوان ، وغرز أنيابه في ساعده ، تصدى له الشاب والمدية بيده ، طعنه دون أن يتمكن منه تماما .
فرّ الذئب هاربا ، وهو يطلق عواء تردد صداه في أرجاء الحقول المجاورة .
في المساء تحلق الجيران للسمر كعادتهم أمام أبواب بيوتهم ، وهم يرتشفون الشاي بتلذذ.
تهامس الجميع:
الفلاح وأعوانه أعلنوا حربا على البطّة المسكينة... يا للقسوة!
هتف أحدهم: أربعون يوما وهي تبيض له الذهب. والآن ولأنها توقفت قرر أن يذبحها ، يا للفظاعة!
رد آخر: بل إنه جعل منها وليمة دعا إليها صحبه وخلانه، يا للوضاعة !
قال ثالث :المسكينة كم كانت جائعة! لم يطعمها إلا أردأ أنواع الحب ،وهي التي كانت تمده بالذهب يا للنذالة!
هز الرابع رأسه :يا للغدر ! وقلة الوفاء. بل إنه من عطائها ، بات يمتلك حقولا شاسعة من القمح والشعير ، وبساتين غنّاء مثمرة .
قال آخر: يا للعار! لا يمكن السكوت أبدا على جريمة نكراء كهذه .
تساءل أحدهم :ترى هل ينبغي لنا أن ندافع عنها؟
صمت الجميع ونظروا بإشفاق إلى حيث مزرعة الفلاح هزوا رؤوسهم وتفرقوا إلى ديارهم وهم يتثاءبون
كان القمر يجود بأشعته بسخاء ويبسطها على حقول القمح المترامية ، تهادت السنابل الفضية بجلال مع هبوب بعض الأنسام الصيفية ، وهي تنوء بحملها الوفير.
من فتحة صغيرة في الجدار أخذت البطة تراقب الحقول الممتدة .
تمتمت بأسى: أنا التي كنت أمدّه بالذهب كل يوم ، أبى أن يعطيني حفنة من القمح ، أقتات بها بل و أهدر دمي أيضا ، التفتت إلى حيث صندوق الذهب ، فرت دمعة حزينة من عينها وغابت بين ثنايا ريشها الأبيض المخضب بالدماء تساءلت بحرقة: هل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟
عصا الفلاح، بندقية الكهل ، مدية الابن ، وأنياب الذئب ،يا إلهي ما أكثر أعدائي ،و ما أكبر مصيبتي! ..ما لبثت أن أردفت بثقة واطمئنان ، ولكن الله أكبر...
تعالى شخير الفلاح إذ كان منهكا بعد معركة الأمس ، استجمعت البطة بعضا من قواها ، فطارت وحطّت على الموقد . غمست جناحها الجريح برماده ، فتوقف الدم النازف ثم عادت إلى مخبأها.
شعرت بشيء من الأمان فاستسلمت لغفوة .
في الصباح الباكر دق الباب بعنف ، كان شيخ القرية ،بادر يسأل الفلاح: سمعت أن لديكم وليمة ، يا للعار! أنا شيخ القرية ولا أدعى؟
ابتسم الفلاح ببرود ، وكان لازال يشعر ببعض الدوار من ليلة الأمس . أجاب وهو يتحسس رأسه المصاب: لم نذبح البطة بعد خشيت أن يكون لك رأي آخر بذبحها ، فأحجمت عن إخبارك.
سبحان الله كيف هذا وفي القرآن" كلوا من طيبات ما رزقناكم" أجابه الشيخ.
همس الفلاح : ولكن الكل يعرف أن هذه البطة كانت تمدّني بالذهب ، إنها ليست صالحة للأكل.
تبسم الشيخ برفق :لا عليك يا عزيزي، أستطيع بسهولة أن أجد لك مخرجا شرعيا مناسبا...ولكن متى ستكون الوليمة جاهزة ؟
في الحقيقة لم أذبحها بعد ، كما أنها تحتاج بضع ساعات لطهوها...عد في المساء.
سال لعاب الشيخ ،وهتف بحماس : سأصلي المغرب وأحضر.
عاد الفلاح فتمدد على فراشه كان رأسه لايزال يؤلمه ، فكّر: لن أتعب نفسي في البحث عنها ،فقد اصيبت ولن تستطع الصمود طويلا
أخذ يحدث نفسه بصوت مسموع : القيظ شديد ، ولحم البط يشعر بالعطش ، أعتقد أنه يلزمنا الكثير من الماء.
عاد الفلاح بدلو كبير مليء بالماء فوضعه على المائدة ، رص الأطباق والأقداح . ثم تناول فأسه وخرج ليحضر بعض الحطب .
سمعت البطة في مخبئها فحيح أفعى ،كانت كومة التبن تهتز، لم تجرؤ على النظر أكثر ، فانكمشت على نفسها وازدادت التصاقا بمخبئها .
ما إن انتصف النهار حتى أقبل المزارع الكهل ، كان مضمد الذراع وابنه يساعده .
أخذت شمس أغسطس تجلد القرية بسياط من النار ، فبدأ العرق يتصبب من الجميع ،كما كانوا منهكين من معركة الأمس . جلسوا إلى المائدة للتشاور في أسهل طريقة للقضاء على البطة .
ملأ الفلاح الأكواب بالماء، شربوا المرة تلو الأخرى.
خفتت أصواتهم تباعا ، وعمّ المكان سكون مفاجئ ، لم يعد يسمع إلا عواء الذئب في الخارج .
حبست البطة أنفاسها فلم تدرك سر هذا الصمت العجيب ... تجرأت بعد برهة فمدت رأسها
كانت الجثث الثلاث على الأرض .
التمعت عينا الذئب هلعا ،فولى هاربا .
طارت البطة ، وحطت على كومة التبن . تلفتت تبحث عن الأفعى، لتشكرها على جميل صنعها...
فلم تجد سوى عصا الفلاح.