لُطف
لُطف
حسين حسن السقاف
عاش لطف مغترباً عن مدينته صنعاء ليستقر به اغترابه في مدينة جدة في الحجاز ، كان يعمل من سنوات طويلة لدى أحد المستثمرين الحضارمة في مصنعه الضخم للسجاد ، اتصف لطف بالأمانة ودماثة الخلق وتميز ببشاشة وطلاقة الوجه حتى ان الابتسامة التي يوزعها يميناً وشمالاً لا تغادر محياه ؛ لذلك كان لطف محبوبا من قبل الجميع. بعد سنوات أصبح رب العمل يثق بلطف كثيراً حتى أنه عيَّنه مسئولاً عن تصدير السجاد إلى الخارج وكان يتقاضى جراء ذلك راتباً كبيراً.
كان لطف يرسل لأخيه ( المطوع ) الذي يعمل في احد مراكز الدولة العليا - في العاصمة صنعاء- مبالغ كبيرة ليشتري له أرضية في حي حدة (الارستقراطي) ليبني عليها عمارته، كان الأخ كثيراً ما يُرسل صور العمارة وهي تنموا إلى أن وصلت دورها السابع وكان يتَّصل بلطف عبر الهاتف ليطلب المزيد من هذه المبالغ التي لا يتردد لطف في إرسالها تباعاً.
بعد أزمة الخليج قرر لطف أن يستقر في بلده ليعيش بقية عمره من ريع عمارته ،وعند ما وصل صنعاء كان أخوه قد فرش له أحد شقق العمارة غير أنه بعد ذلك عند ما كان يطلب لطف منه وثيقة العمارة عمد الأخ إلى المماطلة ، وعند ما ألحَّ لطف في طلبه قال له المطوع: أن العمارة تعود له شخصياً وأنه استضافه فيها فقط - بدافع الأخوّّة - عند ما عاد منكوباً من المهجر.
أصيب لطف بأزمة نفسية حادة بقي قرابة أربع سنوات يعاني من تبعياتها .
بعد حرب صيف 1994 زار لطف حضرموت تلبيةً لدعوة زواج من صديق قديم في مدينة جدة ؛ قابله صدفةً في مستشفى الثورة في صنعاء .
بعد مراسيم الزواج كان لطف يتخطر في منازل القوم ، كانوا يدعونه لمناسبة أو لغير مناسبة . وجد لطف ان حالته النفسية قد تحسنت كثيراً فطاب له المقام في حضرموت ؛ حتى أن أحدهم قدّم له منزله الريفي ليسكن فيه بالمجان ، وما لبث إن أحضر لطف أسرته من صنعاء لتستقر معه في المنزل الريفي الجميل الذي تكثر من حوله أشجار النخيل الخضراء الباسقة ليستمتع مع أسرته برطبها اللذيذ في فصل الخريف ويستنشقون أريج الليمون من حولهم ، وكانت أسرته لا تقل عنه لطفاً ووداعة ، لقد أحبت الناسَ وأحبوها الناسُ لتندمج بسلاسة بينهم ، حتى أنك إذا ما نظرت إلى لطف وأسرته وطريقة ملبسهم أو لو أنك استمعت إلى حديثهم تحسبهم من أهل المنطقة ً .
****
بعد قرابة سنة أصبحت للطف صداقات مع القيادات العسكرية والمدنية مكنته هذه من أن يكون سمساراً متميزاً لا ترد له المكاتب الحكومية طلباً ، لم يعد لطف يحضر المناسبات الاجتماعية كما كان ، أصبحت لقاءاته محصورة ومقصورة على قيادات المنطقة .
أصبح لطف اليوم على الدوام يلبس جاكيت جُنْد بالوان الصاعقة مسلحاً من الداخل بأرشيف متنقل من والثائق والأوراق المطوية - المتعطنة أحياناً - والتي تشبه عجينة المطبقية ، وتحتل جيوب جاكيته هذا ثلاثة تلفونات نقالة بنغمات مختلفة لا تكف رنينها و يتمنطق جنبية (صيفاني) على وسطه ؛ ويحشي مسدسا نوع (ماكريوف) في خاصرته ؛ ويبرز له في كل مساء قرنان لامعان على شدقيه.
لمعت شخصية لطف حتى ان المسئولين الوافدين من العاصمة - بأعلى مستوياتهم- يلتقون بلطف قبل أن يلتقوا بموظفي مكاتبهم الفرعية .
تمكن لطف بعلاقته هذه مع القيادات من أن يكون مالكاً لمساحات زراعية شاسعة وأراض سكنية متميزة حتى أنه إلا يُعتمد مخطط سكني لا وللطف منه نصيب.
أصبح كبار المسئولين في المحافظة – بمن فيهم المحافظ- يغيرون من لطف ومن الحظوة التي حظي بها؛ غير أنهم يجاملونه ويتوددون إليه ، لذلك فإن هواتفه الجوالة المتعددة لا تنقطع عنها اتصالاتهم بشكل مستمر حتى ان لطف لا يرد عليها، وأصبح لطف يُدخل نفسه أو بالأصح يدخله كبار ساسة الدولة في كل صغيرة وكبيرة في الشأن المحلي ويحسب له رجال حكومة الظل ورجال حكومة الشمس- معاً - حساباً .
رغم كل المكاسب التي حصل عليها لطف إلا إنه خسر محبة الناس له ، بل أنه أصبح مكروهاً من الآهالي ؛ ولعل أكثر الناس كرهاً له هو الرجل الذي منحه منزله بعد ان استصدر لطفٌ لنفسه وثيقة أخرى بتملكه .
****
وجِدَ لطف مقتولاً في سيارته الفاخرة في شارع القصر في العاصمة صنعاء التي ذهب إليها هذه المرة لاستعادة عمارته في حي حَّدة.
أتت أسرة لطف إلى مالك المنزل الريفي الذي تسكنه لتعيد إليه وثيقة المنزل - الجديدة - مع مفاتح المنزل .