حصنُ الفَلسِ
حصنُ الفَلسِ
حسين حسن السقاف
أسكنُ في حي القَرن الأخضر الذي تغزَّل فيه عددٌ من الشعراء لسطوة أشجار النخيل الباسقة على أرضه و تغاريد البلابل والقماري على سكونه ، وسطوة رائحة كؤوس ذرة الصيف وسنابل قمح الشتاء ؛ وأريج أزهار الليمون على نسائمه .غير أن أهم ما يُميز حينا هو ذلك الحصن الشامخ الذي لا يبعد كثيراً عن منزلي و المنتصب على أكمةٍ كبيرةٍ مثل النسر المُفرِد جناحيه ؛ فيمثل جناحيه - هنا- الجداران العتيقان المبنيان من الطين المعجون بالتبن ؛الممتد أحدهما باتجاه الشمال والآخر باتجاه الجنوب ليفصل حينا عن بقية الأحياء في المدينة العتيقة.
****
أويت إلى فراشي ذلك المساء متأخراً ولعل مرد ذلك انه قد رُفضَ ليلتها طلبي لابنة جارنا وهي المرة الرابعة التي أرفضُ فيها كخطيبٍ ؛ليس لعيبٍ أعابُ عليه سوا فقري الناتج عن يتمي المبكر . كان هذا الرفض - الذي تلقيته اليوم - يؤرقني ؛ يعتصر قلبي ، لم استطع النوم ، بتُ في فراشي كسمكة وسط المقلاة أصطلي بزيت همي المغمور فيه . هجع الناسُ إلى مراقدهم ، بدت البيوت وسكانها من حولي تغط في سبات عميق ، صعدت إلى سطح المنزل أسامر النجوم والقمر الذي بدا يجرب أوشحته الشفافة المتعددة ؛علها تخفف قلقي ؛ علها تؤنس وحشتي ؛علها ترسي بي في وضع يؤهلني للرقاد. غير ان الهم والجوع لا يمكناني من ذلك ، وبينما كنت كذلك اقتحمت عليَّ خلوتي امرأة غريبة ؛ لم يسبق لي معرفتها ؛ بدت لي ليست كبنات حواء.. كانت تقول لي:
- تناول طعامك ، وهي تشير بسبابتها إلى قِدرٍ وضعته بجانب جدار السطح تنبعث منه رائحة شهية ..ثم أردفت : عند ما تُنهي ذلك اذهب إلى حضرة السلطان انه ينتظرك و كانت تشير بيدها إلى الحصن.
ألتفتُ إلى حصن (الفلس) العملاقة الذي ينتصب أما منزلنا ؛عدتُ لأنظر إلى هذه المرأة الغريبة ؛غير أنني لم أجدها ، لقد اختفت بنفس السرعة التي ظهرت بها . عاودت النظر إلى الحصن المهجور من عهود سحيقة، غير أنني عند ما أنعمت النظر إليه ، وجدته يعج بالحركة ، ثمة أضواء ثابتة ومشاعلٌ متحركة ، وقد أنيرت عرصات زواياه ؛ وأنيرت أدواره الثلاثة حتى اصطبل الخيول كان كذلك ، وقد بدت هناك أشباحٌ تتحرك ، وأصواتٌ تسمع ؛ وألحانٌ شجية تنساب إلى مسمعي من الحصن.
وجدت نفسي أغسل وجهي وألبس ملابسي وأتجه صوبه ، تسلقت الربوة العظيمة ،وصلت إلى بوابته الرئيسة ، كان ببابه حارسان يلبسان ملابس ذات طراز قديم غير أنها في غاية الروعة والأناقة ناهيك عما تحمله من ألوان زاهية ،بدا الحارسان فارعي الطول ..كنت أسأل نفسي: ما الذي جاء بي إلى هذا المكان ولكنني لم أحِر جواباً. ابتدرني الحارس الذي يقف على يمين البوابة:
هل أنت عاشور؟
نعم أنا عاشور.
تفضل..السلطان ينتظرك بالداخل..
وبينما كنت أنهض برز حارسٌ أخر طلب مني أن أتبعه ، إجتاز بي بهو طويل فأوصلني إلى صالة متوسطة الحجم ، طلب مني الانتظار وقال بتأدب :
لو تكمل إغلاق بقية أزرار قميصك قبل دخولك على السلطان!.
أجل.. لقد أتيت على عجل.. قلت ذلك وأنا أقوم بإغلاق بقية أزرار قميصي . ثم أردف الحارس:
هل أحضر لك شيئا تشربه؟
أشكرك
كانت الصالة جميلة مؤثثة بأثاث عتيق حتى اعتقدت بأنني في متحف لتراث العصر المملوكي.
كانت الألحان الخمائلية تترقرق إلى مسمعي ، لم يدم جلوسي في الصالة طويلاً ، فقد فُتح بابٌ كبير عندها أرتفع صوت هذه الألحان ، خرج من الدهليز - المفضية إليه تلك البوابة - حارسٌ اتجه نحوي قائلاً :
تفضل يا عاشور.كان يمد يده مع انحناءة خفيفة إظهارا للاحترام ، ما أن تجاوزت عتبة البوابة حتى تبعني ، لم ينبس أحدٌ منا بكلمة كان صوت الألحان يطغى على السكون ولعل كلانا لا يرغب في أن يُعكر حديثة تلك الأنغام ، لم يدم الأمر طويلاً حتى دلف بي إلى غرفة كبيرة فرشت أرضيتها بالطنافس السندسية وصُفَّت على جوانبها النمارق والعتاد الحربي العتيق في حين رُصَّت الوسائد زاهية الألوان بمحاذاة الجدران .
ما إن وصلت إلى المجلس حتى قدِمَ رجلٌ تحيطة هالة من المهابة و الوقار ، يعتمر رأسه عمامة في مقدمتها خصلة منتصبة من ريش الطاووس مرتدياً جبة من الحرير الأحمر وقد سبقته إلى أنفي رائحة عطره الذي لم أشم عطراً على الإطلاق مثله. كان يقول مرحباً
أهلا بجارنا عاشور ..تفضل
أجلسني بجانبه على أريكة تبعد عنه بقرابة متر؛ وصفق بيديه عندها توقف العزف ليردف :
هل تعرفني؟
لم يحصل لي الشرف بذلك سيدي
إنني السلطان أحمد الفلس باني هذا الحصن! .. لعلك تستغرب عودتي بعد كل تلك العهود؟
أجل أنني أستغرب ذلك... فالسلطان أحمد الفلس قد مات من أمد بعيد..
ما لذلك اجتمعنا ..ان يومنا كان حافلاُ بالنصَب وبالكرِ والفر لذلك فإن ليلنا يجب أن يكون حافلاً بالمرح والشعر.
أدركت من خلال الجلسة التي أختارها لي السلطان بأنه لا يريدني أن أشاهد تلك الفتاة الصارخة الجمال التي تعزف على العود وتغني ؛ وأن ما هو مسموح لي به هو فقط الاستماع ، غير أنني كنت استرق النظر إليها من حين إلى آخر عند ما تنشغل عينا السلطان. ولعل جمالها قد سلب لبي وبصري فوجدت نفسي أتمرد على رغبة السلطان غير أن وضعية جلستي لا تسمح لي بأن أمليَ النظر إليها. قال لي السلطان:
هل لك في الشعر والغناء ؟
إنني أتذوق الاثنين معاً.
إذا فإنني أريد أن أسمع لك شعراً لتغنيه هذه الجارية.
إن شعري بسيط لا يرقى إلى أن يسمعه سلطان مثلك..
قلت في نفسي: ما الذي دهاني؟.. لقد اقترفت كذبا على السلطان ، ماذا أقول له ؟ أصابتني حالة من الارتباك اعترتني حالةٌ غريبة وكأنه قد أصابني مسٌ كهربائيٌ التهبت بداخلي حرارة لم أعهدها أظلمت الدنيا في ناظري، وتصبب جسمي عرقاً.
عند ما توقفت الجارية عن الغناء أنشاء السلطان بيتا جميلاً وطلب مني أن أبني عليه قصيدتي.. لا أدري كيف بنيت البيت التالي ، كانت أسارير السلطان قد تهللت عند سماعه ، وكانت أنامل الجارية وصوتها العذب قد أسالاه نغماً سلساً رقراقاً.
كان السلطان منتشياً بقصيدتي التي كانت تحمل وصفاً دقيقاً لمحاور وسير المعركة التي عاد منها السلطان منتصراً والتي لم أشاهدها ، ما أن ختمت الجارية لحنها حتى قال السلطان:
يالك من شاعر رائع ..ليس لك جزاء عندي إلا هذه الجارية..ولكنني قبل ذلك سأسألها:
هل تريدين أن أمنحك لعاشور؟
حباً وكرامة لما تأمرني به سيدي..ونعما هو الشاعر عاشور.
كان السلطان ينادي على أحد موظفيه وعند ما حضر طلب منه أن يمنحني ألفا دينار وأن يمنحني فرساً عربياً من أفراسه الخاصة وسيفاًً ونشاباً ورمحاً.
خرجت رديفاً لجاريتي على صهوة حصاني (الأبلق) لنؤدي صلاة الصبح في منزلي كنت أشاهد جبل القرن الهرمي الضخم الذي بدا كامرأة في تشهد صلاتها وقد برز على شاهدها (أصبع العروس) - في السماء - نجمة الجوزاء في أعلى تألقها ولمعانها ،وكانت البلابل تغرد إيذانا بفجر جديد ، نظرت إلى منزلي فلم أجده عندها لكزت بكعبي قدميَ على بطن الفرس وأطلقت له العنان لأجد نفسي أصعد الجبال وأهيم على وجهي مع جاريتي أتحسس بين حين وأخر صرة الدنانير وأصبحت أقول أشعاراً لا عهد لي ولا عهد للناس بها. حتى أنهم أطلقوا عليَّ لقب (شاعر الثقلين).وأدخلني شعري عوالم غريبة غير أنها أفضل من عالمي.