عروس تنتظر ثوب الزفاف

عروس تنتظر ثوب الزفاف

أفنان شمس الدين ريحاوي

كان يتلألأ روعة تشع فيه أثمن اللآلئ، يتألق بلونه الأبيض الفتّان جاذبا كل فراشات السعادة الوردية، تتشابك عليه أجمل الجواهر مشكلةً لوحة فنية براقة تلمع رونقا وبهاء، تنبثق منه ورود فضّية لتضفي عليه هالة من الجمال السماوي، تتناثر عليه قطرات الحب الطاهر لتملأه فنا وإبداعا، ترتسم على أطرافه ألوان الحياة المستقبلية يحفّها الحب والحنان والهناء، تقطر منه صور أخّاذة لملكة الزمرد التي حلمتُ بها، تفيح منه رائحة الحلم الذهبي في عناق موعد طال انتظاره....موعد مع أندى ليلة في العمر .

 أخذت أتحسسه بأصابعي، كان ناعما فاتنا فجّر فيّ ينابيع الشوق إليها، فبدأتُ أرسمها في مخيلتي وهي ترتديه برشاقتها معلنةً اكتمال قمر الفرح، حيث تتمايل برقتها...تختال بجمالها وحسنها...تتباهى بدلال...فتجذب الأنظار والقلوب مقرّة أنّها ملكة الزمرد .

 كنت غارقا في بحرأحلامي النديّة لتأتي أمي فتخرجني منه بقدومها الهادئ الذي لم أشعر به إلا بعد كلماتها الرقيقة، قائلة:

 ـــ أيا بنيّ الحبيب.....أما زلت مستيقظا إلى الآن ..؟؟!

 التفت إليها فلمحت بريق من الدموع يترقرق في عينيها، فاقتربت منها قائلا :

 ـــ لا أستطيع النوم قبل رؤية ثوب الزفاف الجميل الذي حبكتيه يا أمي .

 كان بريق الدموع لا يزال متلألاً في عينيها، فقد انتشرت في أغوارها فرحة عظيمة لم تتسع في صدرها فهطلت من عينيها أمطار دمع غزيرة .

تلك هي أمي...نبع الحب والحنان...عاشت تزرع لنا الفرح...تصنع لنا الحياة، شجرة باسقة أمضت عمرها في العطاء، قلم عطوف رسم لنا دروب النجاح، قلب ملائكي ضمنا عند الفرح والحزن، بماذا أكافؤك يا أمي ....؟؟ يا نبع الحب والحنان .....غير أنني ارتميت على صدرها وأحطتها بذراعيّ في عناق حميم مليء بالمشاعر والدموع...ومتوج بأضواء القمر المتسللة إلى الغرفة...ومحفوف بأنسام الصيف العليلة، فتابعتْ بنبراتها الحالمة :

 ـــ أمضيت عمري كله يا نبيل متلهفةً لأراك عريسا أزفّ إليك عروستك ندى بحلتها البيضاء...تشهد الدنيا بأخلاقك وتربيتك...رجلٌ تهتز الأرض من تحته...نبيلٌ في صفاتك ومعاملتك...تتجمّل بالمعاني السامية لاسمك...فأنت ابني نبيل.... الرجل النبيل .

 مسّت كلماتها الوتر الحساس في قلبي، تطايرت مني الكلمات...تلعثم لساني في نطق العبارات فكلها لا ترد جزءا من عطائها الكبير، فهتفت بصدق :

 ـــ شكرا...شكرا أمي .

 شمس جديدة تشرق على مدينة حماة الخضراء، مرسلة أشعة أمل تبشّر بولادة فجر جديد، استيقظت مبكرا حالما أن يكون نهارنا ساطعا بتحقيق الأماني الخضراء كمدينتنا، فلديّ اجتماع اليوم في نقابة المحامين بخصوص مطلبنا في نيل الحرية التي ندفع ثمنها دما للحصول عليها .

 لقد درست المحاماة وحفظت الحقوق والقوانين عن ظهر قلب ولم تطبّق يوما في دستور سوريا...هي عبارات جوفاء تخلو من إرادة الشعب، تفتقد للحرية الحالمين بها، فالتمجيد للسلطة والنفاق والتصفيق هما لغة أبناء الوطن، وإلا فالقتل بأقبح الصور .

 كنت محامي بالاسم فقط، أدافع عن المظلومين وأنا أولهم، أتظاهر بالحرية وأمجّد شعاراتها للناس وأنا سجين مثلهم، أطعن بالقوانين الزائفة فتطعنني بقوة الفساد السائد فأضطر إلى دفع الرشاوي المحرمة لمحاربة الحق، الباطل هنا وحش يفترس كل شريف ليجعله بقايا عظام متآكلة، الإفتراء والتزوير صفتان مقترنتان بالمواطن العامل لجني المال، والقناعة بكسرة خبز من ثروة وطن غني مبدأ مرسوخ في أذهان الناس، المال يتمركز بأيدي معينة محرومة الأيدي الأخرى منه ليسود فقر مدقع ينهال على حياة الناس في سوريا .

 اجتمعت مع أصدقائي المحامين وخرجنا معا في مظاهرة سلمية ترفع شعارات مطالبة بالحرية مبيّنة أنّنا محامون لنكذب الإشاعات القائلة بأنّ المثقفين لا يشاركون في هذه المظاهرات، على العكس فنحن أولى الناس بالتظاهر لأنّنا أعلم بالدستور والقوانين، ومرّ يوم دمويّ آخر على وطننا سوريا فطوى بمروره حياة الآلاف من سكان هذا الوطن لينضمّوا إلى قافلة الشهداء .

 عدت إلى البيت شاعرا بتعب شديد، مرغما أنفي على استنشاق هواء الوطن الكئيب لأتلقّى صفعة من صفعات الظلم القاسية فتنهي معنى حياتي .

 ـــ أمي...أمي...لقد عدت....أين أنت ؟؟

 فتحت باب الغرفة لأراها تتحسس ثوب الزفاف، سألتها :

 ـــ ما بك أمي..؟؟

 فتلتفت إليّ ثم تنفجر في بكاء مخيف...هستيري...قوي، زلزلني هذا المشهد...تصلبت أعضائي... شللت عن الحركة...تفجّرت قنبلة الخوف على وجهي...سألت مكذبا حقيقة مرة أخاف أن تطعنني بسكينها :

 ـــ هل خطيبتي ندى بخير ...؟؟؟

 لم تجب...لم ترد...بل زادت نحيبا...والتقطت بعدها حروفها المبعثرة في ذرات الهواء، قائلة :

 ـــ استشهدت .

 لقد أحرقني هذا النبأ القاتل وحولني إلى مسحوق رماد، شعرت بالعتمة في عينيّ...داهمني الدوار...ترنّحت في المشي مقتول الفؤاد منزوع الروح... اقتربت من الجدار ولكمته لكمة قوية مفرغا بها غضبي...قهري...ألمي... ثم هويت أرضا مستسلما لجيوش الدموع...وموت الأحلام .

 قتلوني بموتك يا ندى...يا ملكة الزمرد...يا وردتي النديّة...يا حلما أبيض عشته قبل أن أعيشه...يا عروستي الأبديّة... يا نجمتي السماوية...يا قمري المنير...يا من غمرني بالحب............

 سرقوك مني...قتلوا الحب الطاهر...مزّقوا الأمل...ضيّعوا الأحلام...عذبوا أرواحنا بسياط الفراق...فأصبحت يا ندى النديّة...يا حوريّتي الحبيبة البعيدة حلما ذهبيا مُحال .

في صباح اليوم التالي وقبل خروجي اغتسلت، سألتني أمي :

 ـــ لماذا اغتسلت يا بنيّ ..؟؟

 ـــ لأنني سأطيل السفر يا أمي ......

 اقتربتُ منها...قبّلتُ يديها الطاهرتين ثم تابعتُ :

 ـــ ستزفّ الحرية إلى وطني سوريا...وستزفّ ندى إليّ في الجنة...حرموني منها في الدنيا وستكون لي في جنة رب السماوات والأرض .

 وخرج نبيل...خرج ولم يعد...فقد استشهد إثر رصاصات الجيش السوري في مظاهرة سلمية تنادي بالكرامة والحرّية.. استشهد مسرورا فهناك يلقى الأحبة...تاركا قلب أم يحترق .

لا تبكي أماه فكلنا نبيل...وروحه ما زالت تنبض فينا صانعة سلم الحرية يصعد عليه الأحرار.......

 لا تبكي أماه فنبيل عريس في الجنة.....والحرّية عروس سنلبسها ثوب الزفاف الأبيض ونزفّها إلى سوريا ليلة الزفاف..... ليلة النصر .