الشهيد حمدان
الشهيد حمدان
مصطفى علوي
بعد أن اخذ حمام دافئ؛ استلقى على الأريكة وحاول - بعناء- أن يفسح الأبواب النفسية لأطرافهكي تتمدد، وما هي إلا لحظات حتى أخذته سنة من النوم، إلا أن صوت صنبور قديم أفسد عليه نوم لطالما اشتاق إليه منذ شهور، فتح عينيه المثقلتين بالنوم وجال بمقلتيهما الشاردتين بين زوايا غرفته الصغيرة، وما هي إلا هنيهات حتى أسدل جفنيه ستار على عينيه وحاول أن يستسلم من جديد لسلطان النوم اللذيذ مستحضر صور جميلة يطرد بها صوت قطرات ماء تنزل من فم صنبور قديم وكلما لامست أرضية غرفته إلا و أحدثت صوت يقذف به في متاهات ذكريات خلت مع صنبور جاوره في إحدى الزنازين حيث لم يكون الصنبور يتوانى في جلده بأصوات قطراته، ويتناوب على جلده بعد أن يفرغ من جسده علماء الجلادين وأساتذة التعذيب و فقهائه.
تبا للصنابير... وتب للزنازين...
غادر غرفته؛ و أقبل على الشارع العام يتمشى و يبحث عن صور يستنشق بها شيء أخر غير هواء العذاب؛ و يطرد بها صورة الصنبور المزعجة؛ بل صور كل صنابير العالم.
مر من زقاق هادئ تربطه به ذكريات قد انطفئت شموعها بين حنايا أيام مظلمة؛ ذكريات سلبتها منه زنازين الظلم و الظلام ولم يتبقى له منها إلا الحنين ورصاص أقلام الرصاص الذي رسم به – ذات يوم- لما كان للرسم في حياته مكان.
وما إن لفظه الزقاق القديم إلى الشارع الرئيسي حتى ألفى نفسه تائه وسط مظاهرة يختلط فيها الهرج و المرج بالشباب و الشيوخ و النساء، كان الأمر سيكون عاديا بالنسبة إليه؛ خاصة و أنه لم يتظاهر يوما ولم تطربه الشعارات لولا أن رأى صوره تزين المظاهرة؛ بل قول كانت هي محور المظاهرة، ولقد كاد يفقد صوابه وهوى يرى صوره ترفرف هنا وهناك وهي مذيلة بصيغة( الشهيد حمدان.)
هل جن القوم؟ حمدان لا زال حي يرزق، حمدان لم يموت بعد، او لا يكفي أن الزنازين لم تلفظه إلا بعد أن كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة؟
وما يدريك – يقول حمدان لنفسه – لعلى القوم يحسبونني قد انتقلت إلى عالم الملكوت؟.
ويستجمع حمدان قواه و أنفاسه وكل ما تبقى له من جهد جهيد، و يغوص وسط المتظاهرين،يجذب هذا من ذراعه؛ و يصرخ في وجه الأخر، بل إنه تلقى صفعة من إحداهن وهو يحاول – كما حاول مع غيرها- أن يحول يقينها بموته إلى يقين بحياته، ولكم كانت دهشة حمدان أشد و هو يرى أمه تمشي مع الماشين - في زي حداد- وتحمل صورتهوتصول وتجول بصوتها في لجة المظاهرة ؛وتردد مع المرددين: الشهيد حمدان ... الشهيد حمدان...
حتى أنت يا أماه؟ أخذك لهيب مظاهرة تتغنى بموت رجل لا زال حي يرزق؟
اليوم سأعلنها على رؤوس الأشهاد، اليوم يعلم الجميع أن حمدان لم يموت بعد... وأخيرا ينفتح باب السعد في وجهك يا حمدان- يقول لنفسه- امك حاضرة هنا و ستكون محاميتك و ستترافع عنك أمام هؤلاء المجانين، أبشر يا حمدان بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك ، إذا لم تكون أفلحت في إقناع الجماهير المخدرة بلهيب هاته المظاهرة الرعناء، فامك هناك، نعم أمك وحبيبة قلبك ستمزق صور الوهم وتصفعهم بك أنت لا بصورك، ويعود بذاكرته إلى قصة الصدق القديمة قدم البشرية نفسها ويتذكر نتف مما قرأه عن أبو بكر الصديق في تصديقه لرسول الله ص في حادث الإسراء و المعراج وها هو أبو بكر الصديق يصفع القوم بقولته الخالدة . إن كان قالها فقد صدق
أماه قوليها أنت أيضا: إن كان حمدان قالها فقد صدق، حمدان لمّا يموت بعد.
ويغوص حمدان في أعماق المظاهرة من جديد، ويزاحم المزاحمين، متغاضي عن صفعات بنات حواء وشتائم من تأذى بأقدامه التي تطأ كل شيء أرض كان أم أرجل؛ امل سيدنا حمدان أن يبلغ امه وابتسامة الشوق و الفرحة و اللهفة تغدق على وجهه من نفحات الجمال جمال.
و يستحث الخطى بصرخات كاوية تنطلق من أعماق ما فيه. ماما أنا قادم إليك... ماما أنا حي أرزق...
ولم يتوقف عن النداء إلا وهو واقف امامها يتفحص وجهها بعينين مغر ورقتين بالدموع؛ ووجه تغلب ابتسامته فرحته و بكاءه ينطق بإحساس لما تعرفه المعاجم بعد؛ ولربما هو إحساس عميق بالوحدة والشوق يكاد يذيق المسكين من كؤوس الردى أقواها، و في لحظة فجأة؛ تنهار كل عواطفه بكاء؛ و يرتمي في أحضانها كجسد منهوك بتعب العالم و العالمين؛ و يجهش المسكين بالبكاء وهو يغرد نفس اللحن الحزين ببحة من أنهكه الصراخ و التغريد: ماما انا حي أرزق ولما أستشهد بعد؛ بل أنا لا أريد أن أستشهد، أنا جبان ماما، أكره الموت وأعشق الحياة؛ أنا أجبن الجبناء؛ بل أنا فخور بذلك؛ لا أريد أن أموت؛ أخبرهم بذلك أتوسل إليك أماه ،
ولكم كانت صدمة المسكين حمدانوهو يرى بعيني رأسه كيف أن أمه تسحب نفسها منه برفق؛ و تدفعه عنها دفعا رقيقا وابتسامة دافئة ترفرف على محياها الجميل؛ وتزيد جمالها المختبئ خلف حجاب الحداد الأبيض جمال، و ها هي أمك – يا سيد حمدان- تستحث الخطى حتى لا تتخلف عن الركب السائر؛ وتكلك لنفسك تائه بين دروب كل المشاعر المهلكة؛ تتقاسمك مشاعر الصدمة و الدهشة والحزن و الأنين.
وينظر المسكين بقلبه إلى الناس من خلف عينين يكسوهما ستار شفاف من الدموع؛ ويلونهما بحمرة الأسى و الأشجان، وينعم بالنظر على من تبقى من مؤخرة المظاهرة وبصيص أمل بأن يتفاجأ أحد لرؤيته لما يفارقه بعد، ولكن ولات حين مناص... دوي شعار المظاهرة ( الشهيد حمدان ) يعمي الأبصار و القلوب التي في الصدور.
ويقف حمدان في مكانه كعمود النور الجامد المنطفئ، وبين رغبة ملحة في البكاء و تعلق فطري بالحياة؛ يقف سيدنا حمدان وقفته تلك؛ وتتحرك نوازع الحياة وتعلقه بها بداخله؛ فيستجمع ما تبقى له من عزم و إيمان بحقه في الحياة؛ فينطلق مسرعا لا يلوي على شيء محاول اللحاق بجحافيل المتظاهرين، بل قول أعزك الله، اللحاق بمقدمتها ولك أن تقول أيضا، تجاوز المقدمة فلقد خطرة باله فكرة يحسبها سيدنا حمدان الفصل بينه و بينه هؤلاء المجانين.
وينجح حمدان في تجاوز مقدمة المظاهرة بعد عناء تكلم به سرواله الممزق، و قميصه الذي تحول بفعل التدافع في قلب الزحام إلى شيء أخر لما يعرف به الخياطين و مصممي الأزياء بعد، ويطلق العنان لبصره عله يظفر بأعلى مكان يمكنه أن يعلو به جحافيل المتظاهرين، فيخطب فيهم خطبة الحقيقة والكشف، وما إن وقع بصره على شاحنة رابضة على طرف الشارع الذي يسيل بالمتظاهرين حتى انطلق مسرع نحوها بعد أن سلب أحدهم صورته المكبرة/ صورة حمدان و الملصقة على لوح خشبي كبير.
ويقف حمدان على رأس الشاحنة وهو يصرخ ويشير بيديه المملوءتين بصورته المكبرة عله يثير انتباه المتظاهرين كلهم أو بعضهم ، وتعم السكينة الناس؛ و تشرئبالأعناق إليه، وينطلق حمدان خطيب في الناس: أيها الناس إتقوا الله وذروا عنكم الشبهات... أيها الناس دعكم من الظن وخذو بالحق و قد تبين لكم... يا قومي إني لكم ناصح أمين أنا حمدان بشحمه و لحمه صاحب هذه الصورة لما يقبض بعد... ويصمت حمدان لبرهة محاول تلمس رد فعل الواقفين... وتطول البرهة، وفي لحظة من اللحظات؛ ينفجر حمدان باكي وقد اطلق العنان لتوسلاته من جديد عساه يقنع القوم، أرجوكم صدقوني أنا لم أموت بعد، أتوسل إليكم أيها المؤمنون الأخيار، الأموات كثر، و الشهداء كثر، فاختروا لكم من شئتم منهم و احتفلوا به ودعوا عنكم حمدان في سلام.
ويتقدم أحد المتظاهرين إلى الأمام، و يتناول الميكروفون من أحد القيادين، و هنا تعلو وجه حمدان هالة من الفرح؛ ويمد يده – سريعا- إلى أنفه يمسح بها ما تدلى من أنفه من مخاط ، هو يعرف ذلك الرجل، يعرف صدقه و عدله و امانته، إنه إمام أحدى المساجد التي اعتاد حمدان أن يصلي فيها لأيام ثم ينقطع عنها بل عن الصلاة لشهور، تمنى حمدان في هاته اللحظة لو أنه واضب على الصلاة في ذلك المسجد طول حياته، بل ليته اعتكف فيه و صام وقام بكل شيء يجعل هذا الإمام يشهد له بين الناس في هذا اليوم المهيب، هذا اليوم الذي له مع يوم البعث من الأخوة ما يكفي لزعزعة همة حمدان.
تناول الإمام الميكروفون، وطفق يتلوا قول الله تعالى:ولا تحسبن اللذين قتلوا في سبيل الله أموات بل أحياء عند ربهم يرزقون.قرأها الإمام بخشوع وصوت جميل اختلط ببكاء كثير من المتظاهرين، و انطلق بعضهم يحمدل و يسبح و يحوقل.
وتستأنف المظاهرة طريقها، ويصاب حمدان بذهول لم يجد له من مفر سوى دس وجهه الحزين بين يديه؛ و هو يتمتم: ولئن اتيت الذين أوتوا الكتاب بكل أية ما تبعوا قبلتك، وما أنت بتابع قبلتهم... صدق الله العظيم
واجهش حمدان بالبكاء، و انطفئت أخر شمعة أمل كان قد أشعلها و عم المكان سكون مهيب ورهيب، سكون لم يكتم أنفاسه سوى صوت ينبعث من مكان ما ويوقظ شيء من الحياة بداخل حمدان،
الصوت: حمدان
ويستدير حمدان باحث بعينيه وأذنيه عن مصدر النداء.
الصوت: حمدان... ارفع رأسك... أنا اناديك من شرفة البيت خلفك.
ويرفع حمدان بصره وينظر إلى الشرفة، و تعلوا وجهه بسمة باردة باهتة.
حمدان: سيد عباس... أنا حي اليس كذلك، ستصدقني يا سيدي و سوف...
ويقاطعه عباس بنبرة الحازم: لا تكون قليل الأدب يا حمدان.
حمدان: ماذا تعني سيدي؟
الصوت/ عباس: لا تفسد على الناس فرحتهم بالنصر، هذا الشعب مل الهزيمة وجاع إلى النصر؛ فدعه يحتفل...
حمدان: وهل تحتفل الشعوب بالوهم سيدي؟ بل هل يحتفل الناس بالجبناء وأنا على رأسهم، أحرص على الحياة حرص الأعداء على الموت؟
الصوت/ عباس: قدر على هذا الشعب أن يحتفل حتى بالهزيمة وأن يبحث لها عن سند في كتبه الصفراء،
حمدان: فليحتفلوا بما شاءوا، ولكن ليدعوا حمدان وشأنه، بالمناسبة سيدي:
هل تصدق أنت أيضا أسطورة الشهيد حمدان؟