صرخات تحت سحابة الظلم
أفنان شمس الدين ريحاوي
الليل ساج، والهدوء يرمي بأثقاله على كل بقاع الأرض إلا أرضنا،
لا يقطعه إلا نسائم الصيف التي تهب محركة خيمتنا المنصوبة في ضواحي الأراضي السورية
قرب حدود تركيا، كنا ننام مفترشين الأرض الجرداء، ملتحفين السماء، تهبّ علينا
التيارات الباردة لتجمّد أطرافنا .
ارتميت فوق التراب وسبحت في محيط لا نهائي من الأفكار إلى أن
غرقت في الكوابيس المزعجة التي اتخذت من رأسي ملعبا لتركل كرتها، ولم ينقذني منها
إلا صراخها الذي في الحقيقة زادني غرقا .
هزت ذراعي بكفها الضعيفة وهي تصرخ وتنادي :
ـــ أيمن ...... أيمن
كالمجنون انتفضت وارتجفت جميع أطرافي، قمت مذعورا أسألها :
ـــ ماذا ...؟؟
فأتلقّى كلماتها المبعثرة بين الصراخ والأنين قائلة :
ـــ لقد حان الوقت .
عندها أضيف سهما جديدا إلى رصيد حياتي الذي اخترق قلبي وحطّم
ما تبقّى منه .
أحاول تماسك أعصابي رغم دمارها، لا وقت للانهيار الآن، أسرعت
فأجلستها على الأرض قائلا لها :
ـــ سأحضر الطبيب حالا..... لا تخافي .
أطلقت ساقيّ للريح وأخذت أركض إلى خيمة صديقي وعندما وصلت صرخت
:
ـــ نبيل....نبيل.... أنا أيمن .
فخرج مذعورا يلتقط جملتي الملقية على الدموع
ـــ زوجتي ستلد يا نبيل .....ساعدني أرجوك .
هز كتفي بقوة قائلا :
ـــ سأخبر زوجتي بالذهاب إليها والبقاء معها لحين أن نحضر
الطبيب معا .
دقائق معدودة وشعرت بيده تمسك يدي وتشدني لأركض، نركض ونركض
نسابق الزمن ونكاد نسبقه، نتخبّط في طريقنا من خيمة لأخرى باحثين عن طبيب
يساعدنا.....عن رحمة تنقذنا....عن أمل يكشف هذا السواد عنّا، وفي كل خطوة تتسارع
نبضاتي وتتصارع أنفاسي لتحتل رقعة في السماء مستغيثة رب العباد .
لم نعثر على طبيب وإنما ممرض، شرح نبيل له وضع زوجتي بينما كنت
أمسك رأسي المعاني من صداع فظيع كأنّما انفجرت احدى الشرايين فيه خوفا على زوجتي .
وصلنا إلى خيمتي حيث تجمع النسوة عندها إثر صراخ زوجتي، دخلت
مع الممرض لأرى أسوأ مشهد في حياتي، حيث ترتمي زوجتي فوق التراب الممزوج بدمائها
والمحيط بصرخاتها المدوية مزلزلة الأرض مبكية التراب .
أخرجني الممرض بسرعة مخاطبا إياي بنبرات قوية مذعورة :
ـــ الوضع خطير ......يجب أن تلد الآن .
قاطعته بكل قوتي وضعفي :
ـــ ألن ننقلها إلى أقرب مستشفى في تركيا ..؟؟؟
ـــ لن نستطيع فهناك خطر على صحتها غير أنّ الجيش السوري على
الحدود سيقتلونا هناك .
حدّق بعينيّ ينتظر مني إجابة، فهززت رأسي قبولا مستجيبا
لصرخاتها المؤلمة المتقطعة .
هو يدخل إلى الخيمة وأنا ارمي بجسدي المثقل على صدر نبيل وأطلق
العنان لشلالات الدموع لأن تعبّر عن حزنها بالقدر الذي تشاء .
كانت صرخاتها المؤلمة تنفذ إلى قلبي المفجوع وتنهال عليه بطعن
عنيف فيفيض دمعا غزيرا، ومع كل صرخة ينقطع شريان فيني ليفجّر بركان القهر في داخلي
فيقذف جسدي بحمم نارية مؤلمة صرخت بسببها صرخة تكوي السماء مناديا يا رب .
لطالما انتظرت هذه اللحظة ورسمتها بإتقان على لوحة حياتي حيث
سنستقبل طفلتنا هدية السماء في بيتنا الصغير في جسر الشغور، سنقيم حفلة....سنأكل
الحلوى....سأشتري لها كل الألعاب، ولم أتوقع أنني ساستقبلها في عتمة الليل على أرض
جرداء عند خيام المظلومين، حيث يحاصرنا الجيش من أبناء وطننا .
ساد الصمت فجأة، وتوقف كل شيء في الكون عن الدوران بما فيهم
قلبي المزلزل، توقفت عيناي عن سكب الدموع وتشبثت بشفتيّ الممرض تستحثه على الكلام
فسرعان ما استجاب لندائها المتوسل الصامت، اقترب مني قائلا : ـــ إنّا لله وإنّا
إليه راجعون .
لقد حطم هذا النبأ القاتل البقايا الحية فيني فأمات ما تبقّى
من قلبي وعقلي وروحي وكياني كله تاركا بعض النبضات المريضة التي تتنفس قهرا وحزنا
وألما .
لم أرى بعدها إلا الدمار والحطام....الجحيم والنار....والصراخ
في كل مكان....احترقت الدموع....وضاعت الأحلام... فقد خيّمت علينا سحابة ظلم سوداء
هطل منها مطر العنف والقسوة والعذاب ليدمر محصول الأرواح الفتية...الشباب
والشابات...الرجال والنساء...الشيوخ والأطفال...وطفلتي النديّة...عصفورتي
الوردية...والتي أسميتها حرّية ........... لقد حملتها ملطخة بالدم...ضممتها إلى
صدري بقوة...أمطرتها بالقبلات...وأخذنا نبكي سويا بكاءاً يعجز الكون عن وصفه، هي
تبكي منادية أمها الشهيدة لتضمّها بحنان إلى صدرها، وأنا أبكي على وطني
وأرضي...زوجتي وأبناء شعبي الشهداء...أبكي على الحرّية التي قتلونا وسجنونا
وذبّحونا وشرّدونا لأننا حلمنا بها.
تسللت خيوط الشمس عبر عباءة السماء فطردت الظلام، كنت قد جهّزت
نفسي للعودة إلى جسر الشغور حيث سأخرج مع أبناء شعبي الأبي في مظاهراتنا السلمية
عراة الصدور نطالب بالحرية، فنحن أبناء الشعب السوري نأبى الذل والهوان، وتركت
طفلتي حرّية أمانة عند صديقي نبيل حيث سيهاجر بها مع باقي الأطفال إلى تركيا لتنعم
بالأمن والاطمئنان...الدفء والمسكن...الطعام والهواء اللائي حُرمت منهم في وطنها
سوريا .
واستشهد أيمن إثر رصاصات الجيش السوري في مظاهرة سلمية ترفع
شعارات للحرية، رحل تاركا ابنته حرّية تنادي الأحرار ليحموها من الظلم، ستكبر يوما
لتسأل من قتل أمي وأبي ....؟؟؟؟
تلك قصة أيمن من بين ملايين القصص التي تحدث يوميا في وطني
الحبيب سوريا .