كنتُ أنا ولم أكن أحداً
سامي نيال
كنتُ أنيقاً كما كنتُ عادةً، مرمياً في أروقة غرفةِ الطوارئ، وبانتظار موكبِ غودو ليتلقفُني عند فراغ سريرٍ جديد.
...
لم تكن صدفةً أن يكونَ نهار الأربعاء، مع ما يحملهُ من تشاؤمٍ لأنّه في منتصف الأسبوع عند أهلِ ملبو...رن، ومع أنّه من الأيام المباركةِ في انكلترا، لأنّه يشي بقدوم نهار الجمعة، وبعطله الجديدة، وما تحملُه من راحة، وسكرٍ لهؤلاء الإنكليز الذين يأبون الرحيلَ عن ذاكرتي، وكيف أنسى وقد تَركتُ خلفي في متحف «ناشيونال كاليري» بعضاً من الصور المعلقةِ في الذاكرة من «فان غوخ» وكرسيّه، و«مونيه» ورحلتهِ إلى لندن، وللأسف كنتُ زائرا ثقيلَ الظل، يتألم وحده على حمّالة المرضى، بانتظار أن يغدَقَ عليه بسرير يلمّه لبعض الوقت.
لم يكن المسعفون مستعدين لاستيعاب إصاباتي. كسرٌ في كوع اليد، وتهشيمٌ من أعلى الرأسِ إلى أخمص قدميّ، لم يكن أحدٌ معي حين تناثرتُ كحبات البركةِ على أرض ملبورن، وفي شارع «بايلس ستريت»، حينَها كان الشارعُ يصارع لتحديد ماهية تصرفِ المهاجرين العرب، وكنتُ واحدا منهم. لا أستطيعُ أن أعبّرَ عن ألمي. لا أستطيعُ سوى أن أتحاملَ على كسرٍ في هذه اليدِ اليسرى المهشّمة. كنتُ واحدا حين تساقطتُ، وكنتُ أيضا مليئاً بعازفيّ الأحياء، وبنوتاتِهم المبعثرة التي سقطت من يدي حين سقطتُ على جمهورية الإسفلتِ المقدّس. شوبان، بيتهوفن، ورخمانينوف يدركون جيدا معي معنى ان تتناثرَ نوتاتُهم الباردة في عبق الجو كحبق منزلي المتناثرِ هناك.
كنتُ واحداً مع أنني شعرتُ بالجمع معهم حين هرّت نُقاطُهم الموسيقية على قارعة الطريق، وكلّما جاهرتُ أكثرَ بألمي كانت أوراقُ النوتة تشتدّ وتتآلف في ما بينها لتعزفَ نشيدَ موتي. لم أكن مستعداً كفايةً لأرحلَ ذاك اليوم، كنتُ ناضجاً قبل دقائقَ لأعزفَ أكثر، وأكتبَ كلّ ما أريد. كنتُ واضحاً، صاخباً بألمي، ولم يسمعني أحد. وكنتُ ناضجا كفايةً لأعاشرَ هذا السريرَ الذي سيحفظني في ثلاجتِه أسبوعاً. كنتُ مهترئاً تماما، كما نسيَ أحدُهم أن يقطفَني كما كأنّني جثة. لم يقطفني أحد، وما أذكرُ انّني كنتُ أرى نجومَ أحلامي تتبعثر فوق جسدي المحطّم، مختلطةً بدماء وكدماتٍ من طراز ٍرفيع، ولما لا فأنا من طباعي الحادّة أن أناشدَ الكمال وكيفما اتفق كان نسيان، وانتظار لا ينتهي في أروقة الحمّالة، كلّ هذا يحدث، وأنا أشاهد القادمين الجددَ مع جراح جديدة. كنتُ الشاهدَ على دمعي يتساقط على نوتاتي الموسيقية، والتي لن ألعبَها بعدَ الآن، وكنتُ أنا الشاهدَ على خيانات ٍعلى مدّ العين والنظر. لم أشتهِ السريرَ يوما، ولم أحب النومَ بعد، لكن في ذلك اليوم كم تمنيتُ لو خلقتُ سريراً. لم أجد تلك الليلة أحداً معي، كنتُ واحداً كالذي اعتدتُ أن أكونَه خلفَ متراسِ الوطن. كنت ُواحداً في رمله، ومتأكدا بأن لي السماءَ وفضّةَ القمرِ التي تشاركُني من فوق دعاء أمّي.
كنتُ أنا، ولم أكن أحداً سوى أنني من وقت لآخرَ أعالجُ نفسي ببعض مكعباتِ الثلج التي أُعطيت لي على عجل، كنتُ أنا محاولاً مخاطبة رجلِ الإسعاف ِالذي حملني الى المستشفى، وكنتُ أنا حين تأكّدتُ بأنّه كان الشاهدَ الأخيرَ على تأديبي بهذه الشاكلة. لم يسلني أحدٌ عن اسمي بل سألوني إذا كنتُ سكران أو أتعاطى المخدرات. غريبةٌ تلك الأسئلة. لا أحدَ يعرفني. لا أحدَ يُكمّل عني الحكايةَ. كانت قصتي سريراً، وكسرا بالغاً في كوع اليد، ومع هذا كنت من المؤجّلين. كنتُ أحلم فقط بسرير خائفٍ، وببضع صورٍ تحدد لي نوعيةَ الكسر ِالغريب. حينَها لم يكن معي أحد سوى موزارت في ركنِه يتأمّلني وهو يعزف لحنَ موتِه، مع أنّني رفضتُ الموتَ تلك الليلة. كنتُ قادرا على عدم الرحيلِ المبكّر. ما أذكرُه من ذاك اليوم بأنني حقنتُ بمختلف أنواعِ المورفين، مع أنّني رفضت الاحتقانَ بمادة مخدّرة أخرى، وتساءلتُ لمَ أعطى هذا الكمّ من المخدرات، مع أنني سُئلتُ قبلاً إذا كنتُ أتعاطاها.
لا أحدَ يشهدُ علي. لا أحدَ يخاطبني سوى أنّني متواصلٌ في يدي مع المٍ متواصل. بعد يومين الساعة الحادية عشرة ليلاً تلقّى الممرضُ اتصالا وهو يقول: حانت ساعتُك. حانت نمرتُك لتكونَ في العملية القادمة، وآخرَ ما تذكرتُه بأنّني كنت رقماً آخر، والممرضةُ تحاول تعريتي، وغسلي بكل حرفيةٍ مطلقة كما أنّني جثّة. ها أنا أستعدّ للنزول تماما لتحصيل رقمي كأنّني في طابورٍ لشراء آخر ربطة خبزٍ لي في عالم يُدعى حضارة، ومعَ رحيلي المفاجئ إلى غرفة العمليات آخر ما سُئلتُ به اذا كنتُ موافقاً لإجراء العملية، وإذا كنت واعياً بأنني لا أستطيعُ بعد الآن استخدامَ يدي بكل ليونتِها الموسيقية. كنتُ أشهدُ على رحيلي المفاجئ، وكنت أتركُ خلفي خطوطاً من الدّمع علّها تعيدني إلى طفولتي.
ما أذكرُه أنني كنتُ مهاجراً، وما أذكرهُ بعد أنّني كنت نائما أحلم بدمع أمّي، وبأجنحةً كانت ترافقني بصمت... لم تكن إلاّ أجنحة النوارس التي أبت أن تهاجرَ بريشها تلك الليلة كانت تترقّبني، كانت تشاهد دمعي يغزل بعضاً من أجنحتها البيضاء تحاول التحليقَ بي عالياً.