حكمتك يا حكيم

عبير الطنطاوي

[email protected]

جلست مرتدية ثوباً بنياً وقوراً .. يغطي رأسها شال أبيض ناصع البياض يكاد ينافس بياض وجهها النوراني ولكن نور وجهها غلب بياض الشال وإضاءة المنزل .. هو نور الإيمان .. نور الصبر والحلم والتسليم لقضاء الله ..

دخلتُ البهو الواسع وبدأت الذكريات الحبيبة تنهمر عليّ انهماراً .. في هذا المكان قبل تسعة أشهر بالضبط حضرتُ مدعوة مع المدعوات إلى حفلة تخرجها في الجامعة ووداعها قبل أن تزف إلى نصيبها الذي طال انتظاره للحظة التي تتخرج في الجامعة ليأخذها إلى قلبه عالمه بيته بلده الذي كان فيه غريباً ينتظر بفارغ الصبر الحبيبة تملأ عليه حياته وتغرد بالحب فوق رأسه ..

نعم .. هنا جلستْ بحلتها العروسية الرائعة الباهرة .. ذلك الجمال الإلهي الذي يحوطه نور القرآن الذي تحفظه عن ظهر قلب .. نور رضا الوالدين .. نور الإيمان .. نور العلم والدين والأخلاق .. كانت تتمشى وتتمايل كأرقى عروس في الدنيا .. بل كانت ترفرف كالحوريات ..بل كانت وكأن الملائكة تحمل محبتها وتطرحها في قلب كل مدعوة .. فرحنا لها وبها ومن أجلها .. وزفت بعد أيام كأحلى ما تزف العرائس .. ثم غادرت البلاد ..

بعد بضعة أشهر قررت المجيء فجأة لزيارة أهلها .. بل أدت مناسك العمرة أولاً ثم قدمت بحملها الأول تستقبلها أمها وأخواتها ومحبوها بفرحة لا توصف .. فالعروس الصغيرة ستغدو أماً بعد أشهر قليلة ..

لم تترك بيتاً من بيوت أحبابها إلا وزارته .. لم تترك مناسبة أو واجب إلا وقامت به .. نشرت المحبة في قلوب الكل وانتهت الإجازة وغادرت ..

نعم غادرت البلاد .. في نفس المطار وعلى ذات الطائرة ودعتها أمها وأحبابها بقلوب محبة داعية الله عز وجل أن تحفها السلامة في كل شيء ..

وتتطور الأحداث ولا يمضي على فراقنا لها بضعة أيام إلا ويأتينا خبر كالصاعقة .. الحبيبة قد وضعت طفلها قبل الموعد لأسباب صحية .. الطفل في خطر .. كلنا غدونا نقول : مالها في عجلة من أمرها ؟ لماذا يا غالية ؟ تخرجت قبل الموعد من الجامعة .. تزوجت بسرعة .. حملت بوقت أسرع .. حتى إنك لم تصبري فوضعت قبل الموعد ..

كنا في خوف عليها أن تفقد طفلها الأول فتصدم في أول عمرها .. ولكنها آثرت إلا أن تغادر الدنيا بسرعة .. وكأن الرحمن اختار ذلك الملاك ليحميه من لوثات الحياة ومشاكلها .. الأحداث تتطور بسرعة مذهلة .. فالطفل وضعه الصحي في تحسن مستمر أما الأم فإنها تعاني من مشاكل صحية مشكلة تلو الأخرى .. وتغادر أمها وأبوها البلاد طائرين بقلبيهما إليها .. عل وعسى يستطيعان أن يخلعا قلبيهما ويعطيا عمريهما لتعيش تلك الأم الصغيرة الغالية ..

وجاء النهار الذي تمنينا لو لم يأت .. بل أتمنى أن لا يطلع نهار كهذا لا علينا ولا على أي أم محبة ..

سمعت أمها تقول بوقارها المعتاد والدموع اللآلئ تتهاطل مسرعة متراكضة :

ـ قبل وفاتها بساعتين وقفت قرب رأسها وقلت لها .................

وقالت كلمات وكلمات تكتب بماء الذهب .. وختمت كلامها :

ـ وعلى الرغم من أنها كانت في غيبوبة طوال أسبوعين إلا أنني بعد أن أنهيت كلامي اقتربت من جبينها لأقبلها وأودعها قبل أن يخرجني الأطباء من عندها على حد قولهم لنرتاح !! وهيهات أين الراحة .. نعم اقتربت أقبلها ...

وهنا ازداد انفعال الأم وعلا صوت عويلها وهي تقول :

ـ وجدت عينيها مغمورتين بالدموع الغوالي .. نعم لقد كانت تشعر بي وتسمع كلامي ..

هنا ضجّ المكان ببكاء الباكيات .. اقتربت أسلم عليها .. حضنتني بقوة .. شعرت بنيران قلبها .. شعرت بحرقتها .. قبلتها بحب وإجلال واحترام .. وقلبي يقول :

ـ أبى قلبك الحنون إلا أن يعود بها لتدفنيها في البلد الذي تعيشين فيه ..فأنت لم تزوريها في بيتها بالدنيا فستزوريها ببيتها الأبدي .. قبل أشهر حمّلت تلك الأم عروسها الحبيبة صناديق من الذهب والفضة والملابس وما تشتهيه نفس الصبايا وبعد تسعة أشهر عادت الأم بصندوق واحد فيه ذكريات العمر فيه حب الولد فيه نيران الثكل ..

جلست أبكي وأردد في نفسي : حكمتك يا حكيم ..!!