الحب في زمن الكوليرا

الحب في زمن الكوليرا..

قصة العشق الخرافي..

كريمة الإبراهيمي

متفرد في كتابته..يغوص في تفاصيل الحياة ليرسم حقيقتها ويلون لحظاتها من ذاكرته المكتظة بالوجوه والحكايا..

 يمسك بخيوط نصوصه فيأسر القارئ بتلك الروح الجميلة الممتزجة بالخرافة حينا وبالحقيقة حينا آخر..

 لا يترك لك مجالا لتأخذ نفسا لأنك تظل مشدوها لما سيحدث ومشدودا لتلك الشخصيات التي تصنع جمال القصة ببساطتها ودفئها وجنونها..

 هو الروائي الكولومبي-غابرييل غارسيا ماركيز- صاحب الأعمال الأدبية المتميزة والذي ينحدر من تلك القارة التي احتضنت الواقعية السحرية..ذاك المذهب الأدبي الذي ولد على يد كتاب كثيرين على رأسهم-أليخو كاربنتيير-و-لويس بورجيس-و-إيزابيل أليندي- إضافة إلى-ماركيز-.

 كتب-ماركيز- الكثير من الروايات التي نالت شهرة أدبية واسعة وترجمت إلى جل لغات العالم.فمن لا يذكر روايته-مائة عام من العزلة-التي قدمته لجائزة نوبل للآداب والتي نالها عام 1982؟ ومن لا يذكر رواياته الأخرى ك-حكاية موت معلن-،-الكولونيل لا يجد من يكاتبه-،-ذكرى غانياتي الحزينات-وغيرها من الأعمال العديدة؟.

 يقول-ماركيز-في مذكراته التي نشرت تحت عنوان-أن تعيش لتروي- أن الرجال يشيخون حين يتوقفون عن الحب عكس ما يقوله الآخرون بأنه يجب أن نتوقف عن الحب إذا شخنا.ولعل هذا القول يعتبر مفتاحا لدراسة –ماركيز-.

 الحب في زمن الكوليرا- El amor en los tiempos Del colera في روايته

يرحل بنا-ماركيز-إلى عالم من العشق المتفرد مجسدا في-فلورنتينو أريثا- الذي عشق-فيرمينا داتا- لأكثر من خمسين سنة، وظل ينتظرها حتى وهما قد تجاوزا السبعين من العمر.تبدأ الرواية من نهايتها حيث يموت الدكتور-أوربينو-زوج-فيرمينا-بعد أن حاول الإمساك بالببغاء فسقط وكانت نهايته، لتبدأ الرواية بسرد الحكاية من بدايتها فتؤسس قصة حب لمراهقين هما-فلورنتينو- العامل بالبريد و-فيرمينا داتا-التلميذة بمدرسة للراهبات وابنة أحد الأثرياء الجدد والذي كان مالكا لبيت ومزرعة وخدم.

 وتبدأ القصة الغريبة/الجميلة والتي يكمن جمالها في غرابتها..إنها قصة العشق حين يأتي فجأة فنقرر أن هذا من يجب أن نعيش معه وأنه هو ولا أحد غيره يمكن أن نمضي العمر معه..كذلك كان ما أراده-فلورنتينو- الذي كتب مئات الرسائل لامرأة لم يلتقيها إلا مرات عديدة وهي مع الآخرين ليتطور هذا الحب إلى عشق خرافي دام أكثر من سبعين عاما وامتد إلى آخر العمر..وحين أدركت-فيرمينا داتا-أن هذا الحب مستحيل لأنه لم يكن أكثر من شعور مراهقين أعادت إليه رسائله وتزوجت من الدكتور-خوفينال أوربينو- الذي عاد من الخارج ليفتتح عيادته بالمدينة وهو سليل عائلة ثرية وابن لطبيب أيضا ولم يكن يعيبه إلا والدته ووجود أختين في البيت مما أزعج-فيرمينا داتا-.وبزواجها تحطمت أحلام-فلورنتينو- وانزوى لفترة لكنه عاد واستأنف الحياة دون أن يحقد عليها وفي قلبه شعور أكيد أنها ستعود إليه يوما وأنه لن يتزوج إلا-فيرمينا داتا-وكان يجهز بيته وأغراضه في انتظار أن يأتي ذاك اليوم.كان-فلورنتينو- عاشقا لفيرمينا ولكنه عرف لاحقا أن الدكتور-أوربينو- و"وسط كل الالتزامات المرهقة كان يجد فائضا من الوقت لعبادة زوجته كما يعبدها هو وقد أذهلته هذه الحقيقة"( الرواية.ص171)والحقيقة الأخرى التي أذهلته هي أنه "وللمرة الأولى خلال السنوات السبع والعشرين اللانهائية التي أمضاها منتظرا لم يستطع فلورنتينو أريثا مقاومة وخز الألم لإحساسه بأنه لابد من موت ذلك الرجل الموقر لينعم هو بالسعادة"(الرواية.ص172).لقد أمضت –فيرمينا- حياتها سعيدة مع رجل تفهم طبيعة غضبها الذي قد يحول البيت إلى جحيم "فكان كلما لمحه(غضبها)يسارع القول لزوجته:لا تقلقي يا حبي، أنا السبب إذ لم يكن يخيفه شيء كخوفه من قرارات زوجته المفاجئة والحاسمة"(الرواية.ص183).وتوالت الأيام ولم يتوان-فلورنتينو-عن الحضور إلى الحديقة التي كان يرى فيها حبيبته ولم تتوان هي عن فتح النافذة المطلة على الحديقة ثم تغلقها"وتتنهد:يا للرجل البائس"(الرواية.ص183).فحين قررت الزواج من الدكتور-أوربينو- لم يعرض عليها"سوى مكاسب دنيوية:الأمن، النظام،السعادة وهي أرقام ما إن تجمع إلى بعضها حتى تتحول مباشرة إلى شيء كالحب،الحب تقريبا ولكنها ليست الحب وقد كانت هذه الشكوك تضاعف من قلقها لأنها لم تكن مقتنعة كذلك بأن الحب هو مت تحتاجه بإلحاح للحياة"(الرواية.ص183).واستمرت حياتها مع هذا الرجل وأنجبت ثلاثة أبناء وأثناء ذلك كان –فلورنتينو-ينتقل من عمل إلى آخر حتى استقر في العمل مع عمه بالسفن وصار من أثرياء المدينة..تعرف إلى نساء كثيرات وأحب بعضهن وعاشر الكثيرات لكنه لم يتمن زوجة إلا-فيرمينا-والأمل لم يمت بداخله يوما انتظار لذاك اليوم الذي ستكون فيه له.أما هي فقد كانت تفرح لأخباره الناجحة التي تصلها و"حين ظنت أنها قد محته تماما من ذاكرتها، عاد للظهور من حيث لم تكن تنتظره متحولا إلى شبح لأشواقها.كانت قد هبت عليها أولى نسائم الشيخوخة حين بدأت تشعر أن شيئا لا سبيل إلى إصلاحه قد حدث في حياتها"(الرواية.199).لكن الرجل الذي أمضت كل حياتها إلى جانبه تغير حين وجد السبيل إلى امرأة أخرى وبحاستها الأنثوية اكتشفت هي ذاك السر الذي حاول إخفاءه وبمرضه ازداد حديثه عن الموت حين صارحه"أظن أنني سأموت ولم ترمش رمشة واحدة حين ردت عليه قائلة:سيكون هذا أفضل.لأننا سنستريح كلانا"(الرواية.ص222) لكنه لم يعرف بأنها" تقيم دوما حاجزا من الغضب لتخفي خوفها، ولتخفي يومئذ أكثر مخاوفها رهبة، ألا وهو الخوف من البقاء بدونه"(الرواية.ص222).لكنها في تلك الليلة تمنت له الموت"بكل حدة قلبها وقد أفزعه هذا اليقين.سمعها تبكي في الظلام...كانت الساعة قد تجاوزت الثانية.فكلمته دون أن تنظر إليه ودون أي اثر للسخط في صوتها بل بصوت أقرب إلى الوداعة قائلة له:لي الحق بأن أعرف من هي.عندئذ روى لها كل شيء.."(الرواية.ص222).بعدها بأيام سمع-فلورنتينو-الخبر ولم يصدق حين أخبره السائق بأن الذي مات هو الدكتور-أوربينو-وكيفية موته.اتجه صوب بيت الدكتور ورآه "على السرير الزوجي كما تمنى رؤيته مذ سمع باسمه لأول مرة،محاطا بوقار الموت..والى جانبه...كانت تقف فيرمينا داتا منذهلة وكئيبة"(الرواية.ص245).كان قد كرس كل حياته لهذه اللحظة، فمن أجلها جمع ثروته وحافظ على مظهره وصحته وتيقن"بأن الموت قد تدخل أخيرا لصالحه، بث فيه الشجاعة التي كان يحتاجها ليكرر أمام فيرمينا داتا، في ليلتها الأولى كأرملة، يمين الولاء الأبدي وحبه الدائم"(الرواية.ص245).وحين عودته إلى بيته وجد تلك الرسالة التي انتظرها أكثر من نصف قرن مليئة بكل الشتائم الجارحة وهي التي حولتها خيانة زوجها إلى شبح.لكنه لم يغضب وراح يكتب إليها رسائله كما كان في السابق.وتكررت زيارته إلى بيتها حيث لم يمانع ابنها من صداقتها معه وهي قد أضحت وحيدة.ويقرران الذهاب في رحلة عبر النهر وكانت الكوليرا ما تزال تحصد أرواح الناس.وكانت الرحلة الجميلة بعد أكثر من نصف قرن من الانتظار لتعرف-فيرمينا-طعم القبلة من-فلورنتينو-ولتستمر الرحلة مدى الحياة..