الدليل

مظفر سلطان

(1911-1987)

في ليلة مكفهرة السحنة، ضريرة النجم . وفي طريق كئيبة مريبة موحشة كضمير المجرم المروع ، سرت وحيدا متوجسا خلف الدليل أتبعه إلى حيث لا أدري...

لم يكن الدليل ليثنيني ، ولم يكن الدليل ليغريني ، ولكنه كان يتقدمني متين البنية ، ركين الخطى ، وأنا أتبعه إلى حيث لا أدري...

أين أمضي خلف هذا الدليل الغريب المريب ؟ لا أدري؟ ولم أتبعه ، وأنا وحيد غريب متوجس، لا أدري؟

ومن خلفي أصوات معروفة وأخرى مجهولة، أصوات صديقة وأصوات عدوة ،وأصوات شتى ..كلها تناشدني العودة ، وتهتف بي صارخة:

-هذا الأفاق الخالد ، هذا الغوي الضال المضل، احذره ، وإياك ، أن تتبعه ! إنه لا يدري أين يمضي فتمضي معه ، ولا أين يستقر فتستقر!

وهتف أحدهم قائلا:

ستندم

وصرخ آخر يقول:

عد إلينا

وهتف ثالث:

ستهلك ! لو كان يجدي العناد ، لما هلك بعناده إنسان قبلك!

ولكني آمنت بعنادي ، ورحت أتبع الدليل ، دليلي ، إلى حيث لا أدري .. ولعله هو نفسه لا يدري!

وسرت وأوغلت وأمعنت ، يعصف بي خوف جارف لايصمد له عزم ، ويحملني عزم راسخ لا يستجيب لوازع.

وطال علينا الليل حتى لكأنه لن ينقضي ، وأرهقني السرى حتىلأكاد أهوي أرضا ،ولكني تماسكت ، وتشددت ، وأوغلت ، وأنا أسمع هاتفا يهتف بي من وراء الغيب فيقول:

تنشد لنفسك العظمة... هيهات هيهات ! قليلون هم العظماء .. والعظيم من يخرج من الدنيا وقد ترك فيها أكثر وأجدى مما أخذ منها ..

وقلت لنفسي:

وهل تكون العظمة في الثبات؟

فهتف الصوت يقول:

العظمة ياهذا ، هي في أن تفعل الخير للأرض ومن عليها ، وتثبت على فعلك .

فأذعنت ، وتجلدت ، وتقدمت .. ثم وجدتني أهوي أرضا وهنا وعجزا .

واستتلى الصوت يهتف قائلا:

أي خير يبقى للأرض وعلى الأرض ، لو أن كل الذين كانوا قد تقدموا قبلك كانوا قد وهنوا وعجزوا ، ثم نكصوا على أعقابهم من بعض الطريق؟

وتشددت وتماسكت ، ونهضت ، ورحت أتقدم ، وأنا أكاد أهوي مرة أخرى ، لولا أن لمحت نورا ينبثق من الشرق

بشراي ! إنه نور أنيس ، كريم رحيم ، واعد ، فبعثني ، وأنعشني ، وأمدني بالقوة والعزم.

وعدت أتبع الدليل ، دليلي ، إلى حيث لا أدري ، وما عاد يهمني أن أدري!

وأنشأ النور الواعد يهمي من السماء ، وينبثق من الأرض ، ويضيء ما بينهما .

ونظرت حولي مأخوذا ، فإذا أنا بأجواء وأرجاء لا عهد للحقيقة ولا للخيال بمثل جمالها وجلالها وبهائها وصفائها ، دنيا لم يدن منها  السوء ، ولم يدخلها الجشع.

وهتف الفرح في أعماقي :

الشكر لك يا إلهي ! لقد منحتني اية عمري ! وهل هذه الأرجاء السعيدة هي جنة الخلد التي وعدت بها عبادك الصالحين؟

وجاءني الصوت يقول :

بلى الصالحين ،الصادقين ، الصامدين .

ولما تلفت حولي أبحث عن الدليل ، دليلي الذي قادني إلى هذا المصير الأمثل ، أتقدم إليه بكل مافي قلبي من فرح ، وعرفان ، وشكر ، لم أجد أحدا ....سواي!

حلب 1 آذار 1986