أم كلثوم بنت عقبة
قصة مهاجر
د. نعيم محمد عبد الغني
تحت لهيب الشمس الحارقة، وفي ظلام الليل الدامس، وفي خوف من قطاع الطرق، وملاحقة قريش كانت هجرتَها، أنفاسها تتلاحق، وفكرها لا يشغل بغير الإسلام والهجرة لنبيه، تعلم جيدا أنها أمام صعوبات الطريق وخطره، فهي لا تملك الزاد والراحلة، وامرأة يخشى عليها من قطاع الطرق، وقد يلحقها أهلها فيخيب سعيها وترد لتعذب عذابا أليما، ثم هي بعد كل ذلك تخشى أن يردها الرسول –صلى الله عليه وسلم- وفاء ببنود صلح الحديبية مع قريش.
مصاعب كثيرة، ومخاطر جمة واجهت الصحابية الجليلة أم كلثوم عقبة بنت أبي معيط –رضي الله عنها-، فلنصحبْها في هذه المغامرة، لنرى قصة هجرتها وكيف تغلبت على هذه المصاعب.
لقد أعدت أم كلثوم عدتها منذ أخذت قراراها، فبدأت في خطة إخفاء أمر هجرتها، حيث علمت أن الطريق من مكة إلى المدينة قد يأخذ منها خمسة أيام، فباتت تذهب إلى البادية عند أهلها فتقيم ثلاثة أيام أو أربعة ثم ترجع مكة، حتى تعوّد منها أهلها على ذلك، ولما اطمأنت عزمت عزمها، وذهبت كأنها تريد البادية، ولما ذهب عنها من يرافقها غيرت طريقها فقصدت المدينة، وهنا يمكن أن نستنبط أن قريشا لم تكن ترضى بأن تخرج المرأة وحدها حتى ولو كان المكان قريبا، خوفا عليها من قطاع الطرق، وعلى هذا فكيف ستخرج أم كلثوم إلى المدينة متغلبة على هذه الصعوبة الكبيرة؟
لقد خرجت أم كلثوم مهاجرة إلى المدينة سيرا على الأقدام، ليقابلها رجل يسألها
أين تريدين؟
وهو سؤال منطقي إذ استغرب الرجل أن تمشي امرأة في مثل هذه المخاطر، وكان سؤاله من باب نخوة العربي وشهامته، فرغم مقدار الفساد الذي كان في الجاهلية إلا أن أصحاب النخوات كان لهم تواجد، فمنهم عنترة الذي يقول:
وأغض طرفي ما بدت لي جارتي
حتى يواري جارتي مأواها.
لكن أم كلثوم أرادت أن تتأكد أن الرجل صاحب نخوة لا صاحب شهوة، فسألته بشجاعة ما مسألتك ومن أنت؟
ولأن الرجل أحس بها وبخوفها عرفها بنفسه فقال:
رجل من خزاعة.
هنا تطمئن أم كلثوم، فخزاعة دخلت في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعقده، وإذا فالرجل باتت عنده نخوة العربي، وأخوة الإسلام، ولن يتعرض لها بسوء، وبدأت تعرفه بنفسها قائلة:
إني امرأة من قريش، وإني أريد اللحوق برسول الله -صلى الله عليه وسلم - ولا علم لي بالطريق.
لقد عرضت السيدة أم كلثوم مشكلتها في عبارات موجزة، تترتب إحداها على الأخرى، فهي من قريش التي عادت الرسول طويلا، ثم هي تريد الذهاب إلى المدينة التي لا تعرف طريقها.
وكانت الإجابة من الرجل أكثر اختصارا، حيث قال: أنا صاحبك حتى أوردك المدينة.
إنه موقف يذكرنا بنخوة سيدنا موسى حين عرض على ابنتي شعيب أن يسقي لهما بعد أن رأى من الفتاتين الضعف وعدم القدرة على السقي، فسقى لهما ولم يدر حوار بينهما إلا في حدود الضرورة، حتى قضيت الحاجة، وفرج العسر.
كانت أمانة الرفيق الذي صاحب أم كلثوم بادية في هذا الطريق، فهما وحدهما، في طريق خال، ومرت عليهما خمس ليالٍ، تصفها أم كلثوم بقولها: (جاءني ببعير فركبته، فكان يقود بي البعير ولا والله ما يكلمني بكلمة، حتى إذا أناخ البعير تنحى عني، فإذا نزلت جاء إلى البعير فقيده بالشجرة وتنحى إلى فيء شجرة، حتى إذا كان الرواح حدج البعير فقربه وولى عني فإذا ركبت أخذ برأسه فلم يلتفت وراءه حتى أنزل، فلم يزل كذلك حتى قدمنا المدينة فجزاه الله من صاحب خيرا).
وها قد وصلت أم كلثوم بعد ليالٍ اطمأنت فيها لأخلاق الرجل الذي رافقها في هذه المغامرة الكبيرة، ولكن هذا الاطمئنان شابه قلق على غايتها الكبرى، إنها غاية رفقة النبي، أبعد كل هذا التعب ترد ثانية إلى قريش كما رد صحابيان قبلها هما أبو بصير وأبو جندل؟
تقول أم كلثوم: (فدخلت على أم سلمة وأنا منتقبة، فما عرفتني حتى انتسبت وكشفت النقاب، فالتزمتني، وقالت هاجرت إلى الله عز وجل، وإلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم – قلت: نعم وأنا أخاف أن يردني كما رد أبا جندل وأبا بصير، وحال الرجال ليس كحال النساء، والقوم مصبحي قد طالت غيبتي اليوم عنهم خمسة أيام منذ فارقتهم وهم يتحينون قدر ما كنت أغيب ثم يطلبوني فإن لم يجدوني رحلوا
فدخل رسول الله -صلى الله عليه وسلم -على أم سلمة فأخبرته خبر أم كثلوم فرحب بها وسهّل، فقلت إني فررت إليك بديني، فامنعني ولا تردني إليهم يفتنوني ويعذبوني، ولا صبر لي على العذاب، إنما أنا امرأة، وضعف النساء إلى ما تعرف، وقد رأيتك رددت رجلين حتى امتنع أحدهما، فقال: إن الله عز وجل قد نقض العهد في النساء وحكم في ذلك بحكم رضوه كلهم، وكان يرد النساء فقدم أخواها الوليد وعمارة من الغد، فقالا: أوف لنا بشرطنا وما عاهدَتنا عليه، فقال: قد نقص الله العهد فانصرفا.
قلت وأعلم أن نقض العهد في النساء معناه نزول الامتحان في حقوقهن، فامتحنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم -وامتحن النساء بعدها وذلك أنه كان يقول لهن والله ما أخرجكن إلا حب الله ورسوله والإسلام وما خرجتن لزوج ولا مال فإذا قلنا ذلك تركهن ولم يرددن إلى أهليهن.
وامتحنت أم كلثوم رضي الله عنها، وفيها ومن جاء من بعدها من المهاجرات نزل قوله سبحانه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمْ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنفَقُوا وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ).
كانت هذه الأحداث في العام السابع للهجرة، حيث فرج الله عز وجل عن أم كلثوم، وبسببها فرج عن مهاجرات أخريات، وتزوجت أم كلثوم بزيد بن حارثة الذي قتل عنها يوم مؤتة، فتزوجها الزبير بن العوام، فولدت له زينب ثم طلقها فتزوجها عبد الرحمن بن عوف فولدت له إبراهيم وحميداً. ومنهم من يقول: إنها ولدت لعبد الرحمن إبراهيم وحميداً ومحمداً وإسماعيل، ومات عنها فتزوجها عمرو بن العاص فمكثت عنده شهراً وماتت بعد أن سطرت قصة هجرتها صفحة في تاريخ الخلود.