هجرة أبي جندل

قصة مهاجر

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

أبو جندل بن سهيل بن عمرو صحابي جليل مثلت هجرته أقسى لحظات مرت على المسلمين في تاريخ الإسلام، لحظة كاد الصحابة فيها أن يعصوا رسول الله ويهلكوا، ولحظة قال فيها أبو الحصين: (إنه هَمّ بأن يرد أمر رسول الله)، ولحظة قال فيها عمر بأنه ما شك في الإسلام إلا في هذا اليوم.

إنها قصة صعبة على أبي جندل وعلى المسلمين الذين تعاطفوا معه، ثم هي أشد صعوبة على النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي جاءه أبو جندل بن سهيل بن عمرو أثناء توقيع صلح الحديبية، يرسف في قيوده التي قيده بها أبوه سهيل بن عمرو كبير مفوضي قريش.

لقد كان سهيل بن عمرو مفاوضا شرسا، وخطيبا مفوها، وكان من شروط الصلح أن النبي يرد إليه كل من جاءه من مكة مهاجرا مؤمنا، ولا ترد قريش من جاء إليها من عند الرسول.

وهذا أمر رآه الصحابة صعبا، وزاد من صعوبته رؤيتهم أبا جندل يرسف في أغلاله مستجيرا بالنبي وأصحابه من بطش قريش. وكانت هذه فرصة سهيل بن عمرو ليضع الصلح بينه وبين النبي –صلى الله عليه وسلم- في أول اختبار صعب، فقال: هذا أول العهد بيننا، وطلب منه أن يسلمه أبو جندل ولده، لكن النبي –صلى الله عليه وسلم- طلب من سهيل أن يستثني أبا جندل من الاتفاق، وقال له: هبه لي، ورفض سهيل الذي خرج لقتال المسلمين يوم بدر مع ولده عبد الله الذي ترك أباه وانضم إلى صفوف المسلمين؛ مما غاظ ذلك سهيلا، وقرر ألا يتكرر المشهد مع ولده الثاني أبي جندل.

لقد كان الموقف صعبا عسيرا، صوّرته كتب السير جميعا، ولنأخذ منها رواية البخاري في صلح الحديبية أن أبا جندل بن سهيل بن عمرو  دخل يرسف في قيوده، وقد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين، فقال سهيل هذا يا محمد أول ما أقاضيك عليه أن ترده إلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم (إنا لم نقض الكتاب بعد). قال فو الله إذاً لم أصالحك على شيء أبدا، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- (فأجزه لي). قال ما أنا بمجيزه لك، قال: (بلى فافعل). قال ما أنا بفاعل، قال مكرز بل قد أجزناه لك، قال أبو جندل: أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلما ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذابا شديدا في الله).

وفي روايات أخرى ومنها رواية ابن كثير في السيرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا أبا جندل اصبر واحتسب، فإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجا ومخرجا.إنا قد عقدنا بيننا وبين القوم صلحا وأعطيناهم على ذلك وأعطونا عهد الله، وإنا لا نغدر بهم".

قال: فوثب عمر بن الخطاب مع أبي جندل يمشي إلى جنبه ويقول: اصبر أبا جندل، فإنما هم المشركون وإنما دم أحدهم دم كلب. قال: ويدنى قائم السيف منه.

قال: يقول عمر: رجوت أن يأخذ السيف فيضرب أباه! قال: فضن الرجل بأبيه، ونفذت القضية.

وتروي كل كتب السير أن أبا جندل فرج الله كربه واستطاع أن يفلت من المشركين ويلحق بأبي بصير في ساحل البحر ليجتمع معه قرابة سبعين أو كثر من ذلك على اختلاف الروايات، ويصبحوا مصدر تهديد لعير قريش التي طلبت من النبي أن يلغي هذا الشرط وأن يقبل المسلم من مكة، فكان صبر أبي جندل وأبي بصير ومن معهما من المؤمنين معقبا فرجا، فأضيق الأمر إن فكرت أوسعه كما يقول الشاعر.

إن المتأمل في قصة هجرة أبي جندل يحاول البحث عن حلقة مفقودة، فكتب السير تروي أنه هرب من سجن أبيه ومشى متجنبا الجبال حتى وصل إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- الذي رده إلى أبيه، ثم أخذه أبو مكرز من أبيه وأدخله خيمته، فماذا فعل بعد ذلك؟

هل فعل كما فعل أبو بصير حيث باغت رفيقيه في الطريق وقتلهم بسيف أحدهم؟ أم هل رجع مكة ثانية وخرج من سجنه ثم هاجر إلى البحر منضما لأبي بصير، أم استطاع أن يهرب من فسطاط أبي مكرز الذي أجاره من ضرب أبيه؟

كل هذه الاحتمالات واردة، وما وجدت لهذه الأسئلة إجابة في كتب السير والتاريخ التي اطلعت عليها، لكن ما تذكره كتب السير أنه انضم إلى أبي بصير، الذي كان يصلي لأصحابه وكان يكثر من قول الله العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصره فلما قدم عليهم أبو جندل كان هو يؤمهم ، واجتمع إلى أبي جندل حين سمع بقدومه ناس من بني غفار وأسلم وجهينة وطوائف من العرب حتى بلغوا ثلاثمائة وهم مسلمون فأقاموا مع أبي جندل وأبي بصير لا يمر بهم عير لقريش إلا أخذوها وقتلوا أصحابها.

حتى طلبت قريش من الرسول أن يستقبل من جاء مسلما من قريش، وبعث الرسوبل يطلب أبا جندل وأبا بصير ومن معها ليقدما عليه في المدينة، فمات أبو بصير وكتاب النبي على صدره، ورجع أبو جندل إلى المدينة وظل يجاهد في سبيل الله حتى مات في طاعون عمواس، وكانت قصته من أشهر قصص المهاجرين.