في مطعم (أبو العز)
في مطعم (أبو العز)
أبو الفضل الشامي
( يسقط ( أبو العز ) !....... ( لك يوم يا ظالم ! ) ( ..... الظلم عاقبته وخيمة ) ... ( الظلم ظلمات .. يسقط ( أبو العز ) .....يسقط ابن الــ......... يسقط يسقط !....لكل ظالم نهاية )
عبارات مكتوبة بخطٍ رديء ، ولا يكاد يبين ، غير أن أيَّ شخصٍ يدخل ذلك المكان تحوز تلك العبارات على اهتمامه وفضوله ، ويحاول فك رموزها ، ليطفئ غيظ قلبه ، ويروي غليله من ( أبو العز ) . وغالباً ما ينجح في تحقيق مراده ، وينفس عن الكبت الذي يعانيه ، وتزداد متعته ، وهو يقرأ بعض الشتائم المقزعة التي تنال منه ... وقد تصدر عنه قهقهات يحاول إخفائها ، وتضيع مع بقية الأصوات !.. كان دخول الخلاء متعة العمال أو قل متنفسهم الوحيد واستراحة يلتقط فيها أنفاسه من عناء عمل متواصل لا تتوقف رحاه ، وكان في الوقت نفسه فرصة للتنفيس عن القهر والكبت الذي يعيشه في كل لحظة في ذلك المطعم المشؤوم !.
حتى ( أبو العز ) نفسه صار عنده هواية في قراءة تلك العبارات ، رغم أنه لم يتجاوز عتبة الصف الثالث الابتدائي ، ولا يعرف يفك الحرف ، وفي بعض الأحيان كان يعجز عن حل تلك الطلاسم المرسومة ، فيصرخ بفتحي رئيس الطباخين ، ليقرأها له ، وكان ( أبو الفتوح ) هذا أفهم من ( أبو العز ) ، وقد حصل على شهادة ( السرتفيكا ) منذ أمدٍ بعيد ، لكنه كان لا يقرأ بأمانة – ولغاية في نفس يعقوب - يُكبِّر الصغير ويكثِّر القليل ، وعندما يعجزه فك بعض الكلمات الصعبة ، وتستعصي على القراءة يتطوع بالترجمة من عند نفسه ووفق مزاجه !.
في جلسة الاستماع إلى ( أبو الفتوح ) كانت تنتفخ أوداج ( أبو العز ) ، وتجحظ عيونه ، يَحمارُّ مَرَّةً ويَصفارُّ مرّةً ، وهو يسمع السباب المقزع المكتوب على الحيطان أو بتعبير أدق ترجمة ( أبو الفتوح ) !.
* * *
جمع ( أبو العز ) سائر العمال عنده ، وسلقهم بلسانه الحاد ، ولم يترك لفظة رديئة أو بذيئة من قاموسه - وليس في قاموسه إلا البذيء - إلا قالها ، ثم قال متوعداً :
- أنا أعرف أربيكم يا بـقــــ .... يا حـمــــ .... يا بـغـــ .... يا كـ .... يا مـ .... يا ...يا.... يا ...يا.... يا ...يا..... !!!.
انتفض ( أبو نضال ) من بين العمال ، وصرخ في وجه ( أبو العز ) ، قائلاً :
- عيب عليك يا معلم !!.. كف عن السباب .. هذا لا يليق بك ، ونحن لا نستحقه ... أما تستحي تتفوه بهذه الألفاظ !؟. نحن كبار وكثير منا آباء وعندهم أولاد ، وبعضنا أكبر منك !.
بهت ( أبو العز ) ودُهش من جرأة ( أبو نضال ) أو لم يكن يتوقع مثل هذا الرد خاصَّة من ( أبو نضال ) ، فهو رجلٌ صامتٌ كالحجر ، قلَّما يتكلم ، ورجل مسكين بائس !...
لكن ( أبو العز ) لن يمرَّها له ؛ خشية جراءة العمال عليه ، ولذا رد عليه بقحة بالغة :
- أنا ما في أحد هنا أكبر مني !.
- الله أكبر .
استشاط ( أبو العز ) غضباً ، وصار يغلي كالمرجل ، وراح يقذف الزبد من فمه ، وشاربه يتراقص :
- سأجعل منك عبرة لمن يعتبر ... ترد عليَّ يا كـلـ...... تتطاول على سيدك ووليِّ نعمتك .. لحم كتفيك من خيري ، يا جاحد الفضل .... يا ناكر الجميل ... لولا رعايتي وعطفي عليك لمت جوعاً !....
وانهال على ( أبو نضال ) ضرباً ولكماً ، وسبَّاً وشتماً .
ولم يشف كل ذلك غليله ، ولم يطفئ النار التي تضطرم في صدره ، فجرد سوطه ، وسلخ جلده سلخاً حتى هدَّه التعب ، فارتمى على الكرسي يلهث ، ورقبته تنتفخ كالبالون .
- أخرجوا هذا الكلـ...لا أريد أن أراه لحظة واحدة هنا !.
جرُّوه من رجليه ، وهو يشحط بدمه ، ورموه في المخزن مغشياً عليه .
هرع إليه بعض العمال ومعهم الأستاذ ، وأهراقوا عليه بعض الماء ، حتى أفاق واستعاد وعيه ، وضمَّد الأستاذ له جراحه ، وربت على كتفه ، وقال هامساً :
لا بأس عليك ، الكرامة باهظة الثمن !.
[ الأستاذ هذا هو أستاذٌ فعلاً ، ويعلِّم صباحاً في مدرسة ابتدائية ، ويعمل في المطعم بعد الظهر ، شأنه في ذلك شأن كثيرٍ من خلق الله ممن سبَّع ( الكارات ) في حارة " الضبع " ، وكان ( أبو الفتوح ) يرتاب في أمره ، ويعتقد أنه يسمم عقول العمال بأفكاره وآرائه ، وأنه وراء كل المشاكل التي تحدث في المطعم ] .
* * *
دنا ( ( فتحي بك )) رئيس الطباخين من ( أبو العز ) حتى كاد يلتصق به ، وهمس في أذنه :
- وجدتها !.
- ماذا عندك ؟. تكلم !.
- أن نضع مراقبين وجواسيس على الخلاء ، ليرصدوا لنا من يكتب على الحيطان !.
- لكن من يقبل على نفسه أن يقوم بهذه المهمة ؟.
- سنجد الكثير ، لكن بعد موافقتك على هذا الإجراء .
- لكن هذا سيكلفني كثيراً ، وسأضطر لمنحهم مكافآت وأجور على أعمالهم ، كما أن هذا قد يسيء إلى سمعتي الشخصية وسمعة المطعم ، وينفِّر الزبائن !.. لا ... لا ...فتش عن غيرها !.
لكن ( أبو الفتوح ) لم يفتش عن غيرها ، فمصلحة ( ( الوطعم ) ) أكبر من الكل حتى من ( أبو العز ) نفسه!. ( هذه من العبارات المأثورة عن ( أبو الفتوح )
* * *
( أبو الفتوح ) دخل على ( أبو العز ) ، ووجهه يبرق من السرور ، وخاطبه قائلاً :
- وجدتها !.
- ما هي ؟.
- حل اللغز وكشف هؤلاء المخربين الذين يحرضون العمال على الفوضى والتخريب ، ويسبُّون حضرتك على جدران الحمامات .
- كيف ؟.
- نجمعهم هنا ، ونكتِّبهم العبارات نفسها ، ونفحص الخطوط ونقارن بينها ، وسنجده حتماً .
لمعت عيون ( أبو العز ) بخبث ، وسُرَّ بالفكرة ، وأمر من فوره بجمع العمال في استراحة المطعم ، ووزع ( أبو الفتوح ) على كل عامل ورقة وقلماً ، وراح يملي عليهم ، وهم يكتبون :
( يسقط ( أبو العز ) !.... يسقط ابن الــ......... يسقط هنا ) ... ( لك يوم يا ظالم ! ) ( ..... الظلم عاقبته وخيمة ) ... ( الظلم ظلمات .. يسقط ( أبو العز ) !....لكل ظالم نهاية ) .
بعض العمال كان يكتب ، وهو يتوجس خيفة ، وآخرون راحوا يكتبون بحماسة ، وهم يحاولون إخفاء ابتساماتهم الساخرة . بعض العمال امتنع عن الكتابة !.
* * *
خلا ( أبو العز ) بـ ( فتحي بك ) في غرف الحمامات ، وبدأوا يفحصون الأوراق ، ويقارنون بين الخطوط . ارتابوا في بعض الأوراق أو خُيِّل إليهم أنها تشابه تلك الخطوط المكتوبة ، واستدعوا أصحابها ، واحداً واحداً ، للتحقيق ، وبالضرب والتهديد والكرباج والفلقة وغيرها من وسائل التحقيق المتطورة ، اعترف جميعهم بالتهم المنسوبة إليهم!.
وخلا ( أبو العز ) بـ ( فتحي بك )في اجتماع سرِّي ، وطال بهم الاجتماع :
- ماذا سنفعل بهؤلاء الأوغاد يا ( فتحي بك )؟. أشر عليَّ !.
- أرى أن نطردهم من وظائفهم !.
- كلا ..كلا ... المطعم بحاجة إليهم ، وهم أهل خبرة كما تعلم .
- إذن نحبسهم فترة مؤقتة لتأديبهم !.
- أنحبسهم ، ونطعمهم ، ويرتاحون من أعمال المطعم !. ليس هذا عقوبة بل مكافأة ! .
- نشغلهم فترة الدوام ، ونحبسهم الفترة الباقية .
- أحسنت ، نعم الآن نحبسهم ، لكن أين نحبسهم ؟.
- دع الأمر لي ...لا تشغل بالك !.
وساق ( أبو الفتوح ) هؤلاء المجرمين بغلظة وعنف ، وسوطه يلسع ظهورهم ، ويأكل ما يصيب من أجسادهم الواهنة .
( أبو العز ) تنفس الصعداء ، وانبسطت أساريره ، وتمتم قائلاً :
- الآن استرحت من هؤلاء الأوغاد ، وسينعم ( ( المطعم ) ) بالأمن والاستقرار والرخاء !.
وسرعان ما أصدر أوامره بصبغ الحمامات صبغاً جديداً ، وألا يبقى أيَّ أثر لتلك العبارات المقبوحة الشائهة .
* * *
أعجبه منظر الحمامات ، وكان يتردد بين الفينة والأخرى يتردد إليها لحاجة ولغير حاجة ، وردد عبارته بصوت يكاد يسمع :
- الآن استرحت من هؤلاء الأوغاد ، وسينعم ( ( الوطعم ) ) بالأمن والاستقرار والرخاء !.
وفي صباح اليوم الثاني كان ( أبو العز ) أول النازلين في غرف الحمامات ، وبينما هو مشغول بحاجته وقع بصره مصادفة على عبارة مكتوبة ( لك يوم يا ظالم ! ) ( المظلوم أقوى وأبقى ) (إرادة العمال لا تقهر ) . عقدت المفاجأة لسانه ، لم يستطع صبراً أن يقضي حاجته !!. وخرج مغضباً ، لا يرى طريقه ، وطلب من فوره الاجتماع بفتحي والحارس أبو محمود وياسين الأخرس المسؤول عن أمن الحمامات ، بحسب التعيينات الأخيرة ، وقال لهم وهو يضرب على طاولة مكتبة بشدة :
- أريد منكم أن تعثروا لي على الفاعل ، ومعكم ثلاث ساعات فقط ، وإلا ستواجهون الفصل من عملكم بل وتهمة التواطؤ والتستر على الفاعلين !.
هرول الثلاثة مذعورين ، وتشاوروا فيما بينهم :
- ماذا عسى أن نفعل ؟. من أين نأتي له بالفاعل ؟. سيخرب بيتنا ، ويقطع رزقنا .
- لا تنزعجوا للأمر !. عندي الحل لكن ليس بالمجان !.
- هات ما عندك .. تكلم .. مستعدين لأي ثمن .
- يتطلب من كل واحد مية ليرة !. جاهزين !.
- نعم جاهزين ، المهم نتخلص من هذه المصيبة .
جمع ( أبو الفتوح ) النقود ، وخرج لتدبير الأمور ، وكان قد رسم خطة في عقله :
- أبو فهد ... أريد منك خدمة !.
أبو فهد عامل مسكين وبسيط من عمال المطعم .
- أمرك معلم . خاتم لبيك بين يديك .
أنت رجل فقير وصاحب عيال ، فما رأيك بمية ليرة مقابل خدمة بسيطة ؟!.
- لعيونك ، أنا جاهز .
- أريد أن تعترف بأنك كتبت عبارات السب والنقد على حيطان الحمامات ، وفقط ، وأجرتك مية ليرة .
- لكن ( أبو العز ) يسلخ جلدي ، ويطردني من عملي .
- لن تموت ، وستأخذ مية ليرة أجرة سنة بالمطعم . ولا تخاف أنا أتدخل في الموضوع ، وأخلصك منه مثل الشعرة من العجين .
* * *
وسيق أبو فهد إلى ( أبو العز ) ، وهم يجرونه جراً قد تورم وجهه ، وانتفخت عيونه ، ومثُل بين يدي ( أبو العز ) !.
- من يكون ؟. ومن فعل به هذا ؟.
- إنه المجرم الذي يلطخ الحيطان بعباراته النابية ، ويتطاول على سيادتكم .
- معقول .. لا أكاد أصدق عيني ... أبو فهد لا يفعلها .
- بل فعلها ، واسمع منه !.
- هل أنت من كـ ؟
- نعم يا سيدي ، أنا أنا ، وبيدي هذه التي تستحق القطع .
- سأقطعها لك يا مجرم يا خائن ، هل هذا جزاء الإحسان ؟. لحم كتفيك من خيري .
- وهل تحصِّل في كتفيَّ مزعة لحم ؟!.
- سـا...كـلـ... خذوه واحبسوه ، ولا تدعوه يذوق طعم النوم !!..
وفي تلك اللحظات كان كلب ( أبو العز ) ينبح ، فلفت انتباهه ، وخطر في باله خاطر شيطاني ، فالتفت إلى ( أبو الفتوح ) ، وصرخ به قائلاً :
- كلبي جوعان ، خذ الكلب معك ، وسلِّطه على جسده القذر حتى يتربى ويتأدب مع أسياده ...
- لن يجد إلا العظم يا سيدي !.
قهقه ( أبو العز) قهقهات عالية ومتواصلة ثم خنقته نوبة سعال قطعت عليه متعته .
- حاضر سيدي !.
أما أبو فهد فكان يرتعد خوفاً ، ويرتعش كالفرخ ويصرخ كالمحموم :
- أنا بريء ...أنا مسكين ... لا ذنب لي .. لم أكتب حرفاً ، ولا أعرف أكتب اسمي ! .. أنا رجل أمي !! ...هو الذي طلب ...
لكن استغاثات أبو فهد ذهبت أدراج الرياح ، وكرباج ( أبو الفتوح ) يعلو ويهوي ، يأكل من ظهره بلا هوادة ولا رأفة .
* * *
اجتمع الأستاذ بزملائه العمال ، وخاطبهم :
- إلى متى نظل صامتين ؟. وكم سنتحمل هذا الظلم ؟!.
- وهل نجرؤ على الكلام ؟.
- نعم ، نمتلك الشجاعة .. نحن رجال ، ولنا كرامتنا . ويجب علينا الدفاع عن زميلنا أبو فهد !. اليوم أبو فهد وغداً أبو سعد ، وسيأتي يوم نقول فيه ( أُكِلْتُ يوم أُكِلَ الثور الأبيض ) !!. وأخذ يحكي لهم القصة ، والفكرة .
- وهل يجدي الكلام شيئاً ؟.
- نعم ينفع ، وإذا تجرأنا على الكلام تجرأنا على الفعل .
- بصراحة نحن أصحاب عيال ، ونريد الستر ، ولا نملك من أمرنا شيء .
وانفضَّ العمال ، وتركوا الأستاذ قائماً يختطب وحده !.
* * *
- إلى متى أظل أضحوكة لهؤلاء الزعران ؟. لماذا عجِزْتَ عن حلِّ هذه المشكلة إلى الآن ؟. خسارة الراتب الذي تتقاضاه ... أنت لا تستحق قرشاً واحداً مني !.كلبي خير منك .....
قال ( أبو العز ) كلامه مخاطباً مسؤول أمن الحمامات ياسين الأخرس .
لم يحر الأخرس جواباً ، ولاذ بالصمت ، وهو يبلع ريقه ؛ مما زاد من سورة ( أبو العز ) ، الذي غادر كرسيه مغضباً ، وأخذ يرفسه ويشتمه بأقذع الكلمات ، وهو يقذف الزبد من شدقيه ، ثم بصق ( بزق ) عليه ، وطرده من مكتبه .
بعد أن هدأت أعصابه ، استدعى أبو رعد الخباز ، وعينه بدلاً عن الأخرس :
- أنت محل ثقة عندي ، ولذلك اخترتك مسؤولاً عن أمن الحمامات منذ هذه الساعة ، ومكافأتك عندي كبيرة إذا كشفت لي أمر هؤلاء الخونة الجبناء الذين يشوهون سمعتي واسمي .
أبو رعد الخباز امتلأ حماسة ، وكتب لائحة التعليمات والأوامر الجديدة ، وعلَّقها على الباب الرئيس للحمامات :
1- يمنع منعاً باتاً اصطحاب أقلام أو طباشير أو فحم أو أي شيء من وسائل الكتابة الحديثة أو البدائية إلى داخل الحمامات . ومن يضبط معه شيء من هذه الممنوعات يتعرض لأقسى العقوبات .
2- يحظر على قاضي الحاجة المكث أكثر من ثلاث دقائق ، ويعتبر المخالف متهماً مداناً حتى تثبت براءته .
3- تمنع الإضاءة منعاً باتاً داخل غرف الحمامات حتى لا يُستعان بها على الكتابة على الحيطان .
4- تمنع .........
5- يمنع !!!.
أبو رعد لـ ( أبو العز ) :
- سيدي ، ماذا تقول بإغلاق الحمامات كتدبير احترازي مؤقت ريثما نفكر في حل حاسم لهذه المشكلة التي تؤرق سيادتكم !؟.
عقدت الدهشة لسان ( أبو العز ) ، فإنه لم يخطر في باله مثل هذه الفكرة الذكية !. ثم خاطب أبو رعد قائلاً :
- لكن العمال !. ماذا ؟. وأين ؟. وكيف ؟!!!!.
- هم أحرار ، يحتالوا لأمرهم . يؤجلونها ...أو ليفعلوها في سراويلهم !.
ربت على كتفه :
- أحسنت ...أنت تستحق منصبك بجدارة ، ولك عندي مكافأة قيمة .
لافتة كبيرة كتبت بخط عريض :
[ الحمامات مغلقة لأعمال الصيانة ، تحقيقاً للمصلحة العامة ورعاية لمصالح " المطعم " والعمال !!!].
فوجئ العمال بإغلاق الحمامات ، وحاصوا حيصة الحُمُر ، وصاروا يتسللون لواذاً واحداً إثر آخر ، ليقضوا حاجتهم خلف المطعم ، بينما انتشر بعضهم في الخلاء هنا وهناك ، في رحلة مضنية عن مكان آمن !!.
ومرَّ اليوم الأول والثاني والتالي ، ولم تنجز أعمال الصيانة .
فكَّر أبو رعد وقدَّر ، ثم قرر ، وفي صباح ذات يوم فوجئ العمال بلافتة عريضة كتبت بخط عريض :
[ بشرى سارَّة إلى عمال مطعم ( أبو العز ) ، ندعوكم إلى افتتاح حمامات أبو رعد العصرية ( نظافة – ماء – صابون – تنشيف – ملطف جو - خدمات متكاملة ) مقابل أجرة رمزية – الأيام الثلاثة الأولى مجانية ] .
ازدحم العمال على حمامات أبو رعد العصرية على مدى الأيام الثلاثة ثم انقطعوا في اليوم الرابع إلا لمضطرٍ لم يجد بدَّاً مما ليس منه بدُّ .
أبو سعيد يقول للأستاذ :
- أحدنا ما معه قرش ليأكل حتى ينفق قروشه في إخراج فضلاته ! .
الأستاذ :
- هذا إذا بقي فضلات !.
* * *
وفي صباح ذات يوم فوجئ العمال بلافتة عريضة كتبت بخط عريض : [ إنا لله وإنا إليه راجعون ، ننعي إليكم ببالغ الأسى وفاة المعلم ( أبو العز ) حسني بن حمدو الطبَّاخ ، إثر نوبة قلبية حادة ، تغمده الله برحمته ، وأسكنه فسيح جناته ]
أظهر العمال أسفهم ، فالموت ليس فيه شماتة لكن بعضهم لم يستطع أن يخفي مشاعر الفرح الغامرة .... مرَّت ثلاثة أيام ، ولا حديث للعمال إلا عن خليفة ( أبو العز ) ، والتغييرات المتوقعة !.
في اليوم الرابع استقبل العمال معلمهم الجديد ( عزُّو ) بحفاوة بالغة ، مستبشرين بتغييرات جديدة .
أبو سعيد يقول للأستاذ :
- هل تظن أنه سيتغير شيء ؟. هل ستتحسن أوضاعنا ؟! .
الأستاذ :
- لن يتغير شيء ، هذا إذا لم يتغير إلى أسوأ !.
- لكن عزُّو شاب ، وعقله متطور ، و..
وقطع كلامهم ( أبو رعد ) يدعوهم إلى اجتماع عاجل وهام مع المعلم ( عزُّو ) .
[ انسوا الماضي !. نحن في عهد جديد . سيتغير كل شيء ، وستتحسن ظروفكم ، وأزف إليكم بشرى سارة : سأفتح لكم الحمامات !. ]
العمال : ( تصفيق حاد وهياج ، وهتافات ؛ يعيش عزُّو . يعيش . يعيش ) .
أبو رعد لعزُّو :
- ماذا صنعت يا سيدي ؟. سترجع المشاكل ووجع الراس !. هؤلاء العمال لا يستحقون الحرية ولا الحمامات . ألا تعلم ماذا كانوا يكتبون على الحيطان ؟.
- وماذا كتبوا ؟.
- كانوا يسبون المرحوم ( أبو العز ) ، ويقولون – قطع الله ألسنتهم - : كذا ، كذا ، و..و..و !.
- لا بأس . دعوهم ، فليكتبوا ما شاءوا !. أنا لا يهمني ولا يزعجني أن يسبوني ... وفروا الأقلام في الحمامات ، من جميع الأنواع والألوان ... ليملأوا الحيطان ، خلُّوهم يفرّغوا ما في قلوبهم وهم يفرغون ما في بطونهم !. ماذا سأخسر ؟. لن ينقص ذلك من الغلة . وما عدا ذلك كله سهل .. المهم ما يطالبوا بتحسين أوضاعهم وحقوق العمال وحقوق الإنسان وحقوق المرأة !.
- وهل عندنا نساء في المطعم ؟.
- نعم ، أم زكي !. أنسيتها ؟.
- والله غابت عن بالي .
* * *
أبو سعيد يقول للأستاذ :
- ما رأيك الآن بأجواء التغيير والديمقراطية ؟. من الآن فصاعداً تستطيع أن تستنشق عبير الحرية ، وتقضي حاجتك على كيفك ، وتكتب ما يحلو لك ؟. آه ..... أخيراً فُرِجت ، وكنت أظنها لا تفرجُ .
الأستاذ :
- ما زلت على رأيي ،لم يتغير شيء ، هذا إذا لم يتغير إلى أسوأ !. قل لي : ماذا تغير ؟. هل زاد رواتبنا ؟. هل حسن أوضاعنا ؟. نحن العمال لنا حقوق أدبية ومادية ..حق التقاعد ، العلاوة الاجتماعية ، بدل السكن ، والمواصلات ، العلاج ، الضمان الصحي ، العلاوة الأسرية ، إصابات العمل ، احترام العامل ، فماذا أعطانا منها عزُّو ؟.
- صه يا أستاذ ، لا يسمعوك فتزعلهم [1]... المعلم عزُّو قادم ومعه معاونه الجديد أبو سطَّام !.
- إي تشرفنا .
- السلام عليكم شباب ، كيف الحال ؟. هل ينقصكم شيء ؟.
- لا سيدي لا .. نحن بخير ، وكل شي تمام ، وعلى مايرام ، والله يحيِّ المعلم ..يعيش عزُّو !. يعيش عزُّو !.
- اخرس ويلك ، يقطع لسانك على الوقاحة وقلة الأدب !. قل : المعلم عزُّو .
- حاضر سيدي ، أمرك . يعيش المعلم عزُّو !. يعيش المعلم عزُّو !. يعيش أبو الفقراء والمساكين ... يعيش أبو العمال !. يعيش عزُّو الفاتح !.. يعيش ( فاتح ) القسطنـ .. عفواً ، الحمامات !!!!!!.
- الزَعَلُ: النشاطُ. وقد زَعِلَ بالكسر نَشِطَ فهو زَعِلٌ، وأَزْعَلَهُ غيره نَشَّطَهُ ، ومن مكانِهِ: أزْعَجَهُ والزَعِلُ: المتضوِّرُ جوعاً. [ الصحاح في اللغة - (زعل) ]