الشيخ التونسي وسباق الحواجز

الشيخ التونسي وسباق الحواجز

جمال المعاند -إسبانيا

[email protected]

- لم تأخذه حتى سِنَةٌ من النوم، فهو مستلقي على فراشه، يلامس تفكيره عالماً إفتراضياً من أحلام اليقظة، جولات خيالية تتفجر طاقتها من أعماق نفسه، فهو قد اجتاز امتحان القبول في جامعة مرسليا، ونبع ثر أخر فجر بين حناياه غبطة تمثل في حصوله على مكافأة القبول، والتي كانت سيارة حديثة وعدها بها والده ، أما ثالث مصادر فرحته، تمثل بسفره رفقة أمه وأخواته إلى بلده الأصلي تونس .

وهو يجوب في بيداء أحلامه، يستشعر لذة دغدغة الأمال ويتنقل من واحة افتراضية إلى أخرى، سمع وليد صوت والدته، وهي عادة ما تكون أول المستيقيظين في المنزل، فحطت أحلامه على مدرجات رأسه، ولا يدري كم من الوقت استغرقت رحلته الحالمة على متن الفراش .

نهض وأسرع إلى والدته لمساعدتها في ترتيب الحقائب، وأخذ أفراد الأسرة يستيقظون الواحد تلو الأخر، وكلهم في عجلة من أمرهم، فالباخرة التي ستقلهم تنطلق في ساعات النهار الأولى .

وما إن تحركت السفينة بضعة أميال  مخلفة وراءها موانئ مدينة مرسيليا، حتى صعد وليد ومعظم الركاب على سطحها، وولوا وجهوهم قِبَل تونس، مع علمهم أنهم يحتاجون ليوم وليلة، بيد أن الشوق والحنين سولَ لأبصارهم القدرة على رؤية تونس عبر حجب الأفق .

في اليوم التالي وفيما كانت الشمس تحث الخطى نحو كبد السماء، كانت السفينة التي تقلهم، قد كشفت عن مراسيها لتقف على شواطئ تونس، فاستقبلتهم غلظة رجال الديوان – كما يدعونهم بالدارج – كان أولئك الرجال في أعينهم ريبة تمثل جزءاً من تغطيتهم البصرية، فيحرصون على تقليب النظر والأيادي في كل شيء،

لكن رجال الديوان في تونس، لم يكتفوا بهذه المضايقات حول الأمتعة، بل وصل الأمر إلى تصوير وثائق السفر، وملء استمارات.... ، اجراءات مذقت لذة الرحلة الحالمة، بضجر وخوف الواقع .

 بعد ساعات انقشعت الغمة، وعبروا حواجز الاستقبال الرسمي، ودخلوا إلى حفاوة الاستقبال الأهلي، التي مسحت جزءاً من تلك الأوضار .

وسار وليد وأسرته وجموع المستقبلين لهم، إلى ضاحية من ضواحي العاصمة حيث بيت الجد، الذي تحول إلى مقر عام لكثرة الوافدين من الأهل والجيران للتهنئة بسلامة الوصول، وكان من بينهم أتراب لوليد في العمر،  وبناء على توجيهات جد وليد الذي لم ير حفيده إلا وهو شاب، رغب الجد إلى الشباب من الأقرباء والجيران، بتعريف وليد على بلده .

 أخذ الشباب يخرجون إلى معالم العاصمة، وعادة ما يستهوي الشباب أماكن المتعة من المقاهي والمطاعم وهكذا انقضت أيام،  وفي عصر يوم انغمسوا في ممارسة طقوس الشباب من لهو الحديث والمتع، وعلى غفلة منهم،  تسللت الشمس مودعة سماء العاصمة، وجاء الليل ينشر ستائره، تذكر وليد وأبدى لرفاقه رغبته بأداء صلاة المغرب، وتمنى أن يؤديه في المعلم الأبرز جامع الزيتونة، فعقدت الدهشة ألسنة الشباب لبرهة من الزمن، ثم أخبروه همساً،  أن ذلك لا يمثل خطراً عليه فحسب، بل عليهم أيضاً، ومسألة أداء شاب الصلاة مظنة ريبة لدى السلطات، وتحدثوا عن تنظيم بطاقات ممغنطة تسمح للمصلي المقيد اسمه فقط الصلاة في مسجد ما، لم يكن لعقل وليد الذي نشأ في فضاءات الحرية، أن يقبل تكبيل حرية التدين، فهي أقدس مافي الحرية الشخصية .

وازدادت الانطباعات السيئة في زيارة وليد لتونس، لكن مدة السماح له ولعائلته توشك على الانتهاء، مما رفع درجة تحكمه بأعصابه، وفعلاً  أزف موعد العودة إلى مدينة مرسليا .

وعاد وليد إلى حيث يقيم، بعدما اغتيلت أحلامه، حيث كان يمني نفسه بزيارة أهم المعالم الإسلامية لبلده، تلك المعالم التي قرأ وسمع عنها الكثير، بدءً من الزيتونة ودوره كمنارة علمية امتد شعاعها إلى أطراف الأمة الإسلامية،  ومدينة القيروان، التي تركت بصمة في الفقه الإسلامي والمالكي خصوصاً، حتى أن المراجع الضخمة نادراً ما تخلوا من قول وهذا ماجرى عليه العمل في القيروان، مفارقات في ذهن وليد لا يدري لها سبباً في طمس معالم، وتهميش أخرى، ولهاث خلف الغرب وتقفي أثره في كل جحر يدخلونه .

هذه المعاناة النفسية لوليد عجز عقله عن فهمها، جرب الكلام مع معارفه، فما زادت تحليلاتهم عن توصيف الحالة، وسوق أمثلة جديدة، بيد أن الشباب ينظرون للمستحيل على أنه مجال للتحدي، واليأس حالة سرعان ما تزول من نفوسهم، فيعالجون المستحيل بطرق بعضها لا يمت للعقل بصلة، فتمتزج الأوهام والأحلام والبراهين، أما عن التكلفة من جهد و وقت، فلا قيمة لها عندهم، فأوقاتهم مجانية وجهد متوفر بكثرة، بل حتى لو وصل الأمر للتضحية فهي يسيرة ولا تخضع لقيود التفكير .

أيام وحديث وليد يشي برفض ماشاهده في تونس، رسالة يوصلها لكل من يلقى، ، واعتاد وليد صلاة الجمعة عند شيخ تونسي شاب في العقد الرابع من العمر في ضواحي مرسليا، فاختلى بالشيخ بُعيد الصلاة، وأخذ حماسه يلقي خطبة ثانية، والشيخ يسمع وإبتسامة لا تفارق محياه، وتلمع أباريق وجهه، لقد كان الشيخ مسروراً من غيرة وليد على دينه، وشعبه الذي يتجرع كؤوساً من الذل ولا يكاد يستسغها، فلما انتهى وليد من خطبته الحماسية وما فيها من قصص، قال الشيخ:

روى الهيثمي في مجمع الزوائد بسند حسن، عن سيدنا معاذ بن جبل رضي الله عنه، عن الحبيب صلى الله عليه وسلم قال:

( إنكم على بينة من ربكم مالم تظهر فيكم سكرتان، سكرة الجهل وسكرة حب العيش...)، واستأذن الشيخ بالانصراف . 

أما وليد فقد وقف في أرضه، لم يسمع بهذا الحديث أبداً، وتمتم في نفسه، ما ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم من خير إلا دل أمته عليه، وما ترك من شر إلا وحذر منه، لكنه أدرك أن الشيخ دله على شيء، فقد عُرف عن الشيخ ذكاؤه الحاد .

كلام الشيخ سكن نوعاً ما من روع وليد، لقد أوقد له شمعة من الأمل، في ظلام اليأس،  لاعتقاده أن النبي صلى الله عليه وسلم، ماحذر من شيء، إلا ورسم معالم المخرج منه .

 صراعٌ داخل وليد بين مشاعر يؤججها الغضب مما عانى في تونس، وعقل يتلمس بين آكام الأفكار وتلا ل المبادرات المستحيلة، ومن عادة شباب هذا الزمان، تحدي الليل عندما يسترخي بعد تمكنه من إسدال سجفه،  ليفرض على المخلوقات الأخرى التي تحت سطوته الاستسلام للنوم والهجوع، ومما ميز هذه الحقبة جلوسهم على شاشات لا تعبأ بالمكان يزجون الساعات في قربٍ يعد معجزة تقنية، حتى يخيل للناظر أنه يجلس مع صاحبه في نفس الغرفة والمسافة بينهما تتقطع لها أكباد الأبل، والحديث بين وليد وأصدقائه منذ عودته من تونس ،  امتهان الإنسان في بلده، ومقارنات عن البلدان التي يعشيون فيها، وأضاف لهم وليد ليلتئذ، كلام الشيخ التونسي، كان الشباب ينتمون لبقع جغرافية مختلفة حيث يقطنون، تربطهم تونس وحدها كأصل لكل منهم، وهم يخوضون في أحاديثهم، قال أحدهم: فكرة بكر، مفادها كفانا تكراراً، تعالوا نكون ايجابيين، ونقترح حلولاً .

وإن لم تنتج عقول الشباب الحلول البكرية فنادراً ما ينتجها غيرهم،  فقد ثبت في علم النفس أن الشباب أسرع تفكيراً من غيرهم بثلاث مرات، طاقة أودعها المولى سبحانه فيهم تلائم دورهم في الحياة، وعلى هذا تم الاتفاق .

ذهب وليد إلى شيخه التونسي ليخبره بفكرته الحالمة، ويكاد يبشره أنه ورفاقه سيجدون حلاً، وهذا ديدن الشباب، ولأن الشيخ لا يفصله عنهم إلا عقدين من الزمان راقت له الفكرة، فأثنى عليها .

هذا التشجيع من الشيخ زاد حماس وليد وصحبه، فقرروا توسيع شبكتهم، فعهد لكل واحد منهم أن يأتي بمن استطاع من الشباب، وأخذت المجموعات تتكاثر مثل الفطر، والمشاريع تلد مشاريعَ .

فخطف وليد نفسه لشيخه ليخبره عن التطورات الجديدة في المجموعة، فقال الشيخ: احذو حذو التجربة اليابانية في النهوض، سأل وليد عن التجربة اليابانية، فأخبره الشيخ أن إبحث عنها في الشبكة العنكبوتبة .

عاد وليد لأصحابه بتوجيه الشيخ، بحث الجميع عنها، فوجدوا أن اليابان لتقوم من كبوتها،  قسمت مجموعات العمل إلى مجموعات تضم عشرين متميزاً، فكون الشباب مجموعات على شبكات التواصل الاجتماعية، تضم العدد نفسه، وتناقش قضية من قضايا تونس، وأخذت الأراء تولد خُدجاً، فما من رأي ولد تاماً، شكا وليد للشيخ تعسر ولادة آلية عملية، قال له الشيخ: كنا ونحن في كشافة تونس نردد نشيد، ردده أبناء تونس إبان الاحتلال الفرنسي يقول :

  - خيوط الشمس ديمة المد  =   والحصادا ما تتعد بعد

لقد كان الشيخ يغني، وتسرح عيناه في الأفق، وتبتسم أسارير وجهه، حاول وليد استزادة الشيخ وصوته الجميل، لكن الشيخ قال: الأمر أكبر من أغنية .

 أول مافعله وليد سؤال والده عن الأنشودة، فهو من جيل مقارعة الاستعمار، سكت أبوه ثم أخذ يتمتم بالأنشودة، واعتراه ما اعترى الشيخ من حالة السُكر وهزه الطرب، وأضاف له أبيات أخرى، كان بيتاً منها يقول:

  - في المسيرة إيد واحدة الكل =  يخف الكيل ويتوزع الحمل

سجل وليد القصيدة كاملة، بل وجدها لمنشد إسلامي معروف، سجلها على هاتفه المحمول، وأرسلها لكل الشباب من أصحابه، وبعضهم وضعها على مواقع النت، وأمست مواقع التواصل الاجتماعية التونسية الشابة في تناغم هرموني، يجمع بين هموم واقع محبط، وأماني تطير بكل الاتجاهات، وانضمت مجموعات ومجموعات، بعضها من تونس وبعض منها من التوانسة في الخارج، ورغم الموج الهادر من الاقتراحات وتسجيل ما يقع، حدث أن أقدم شاب جامعي من مثل سنهم على إحراق نفسه بعد إهانة من أزلام النظام ومنعه من كسب رزقه بعمل لا يتناسب ومؤهلاته فضلاً عن طموحاته، موقف تمكن فيها شيطان الاحباط من نفس ذلكم الشاب فتهور .

كانت مجموعات وليد وأمثاله ترصد كل شاردة وواردة يراد بها اذلال التوانسة، وطرح سؤال بين الشباب ماذا تفعل لو كنت مكان البوعزيزي الشاب المنتحر ؟ .

وعاد وليد للشيخ ليطرح عليه السؤال، فقال الشيخ تعددت الأسباب والموت واحد، ودعا للشاب بالمغفرة، وقال الشيخ أيضاً: لو وجهت هذه التضحية لكان أولى .

عبر أطياف النت، كان الشباب يتدراسون ما حصل، فقرر المقيمون منهم في تونس المشاركة في تشييع جثمان ضحية قدمت قرباناً في محنتهم ومما يعانون منه أيضاً، لكن السلطات لم يرق لها ذلك، فتعاملت معهم على عادتها من قمع وقسوة، هنا تذكر بعض منهم كلام الشيخ لو كان في تضحية لكان أولى،  فاستلم الشباب زمام المبادرة، وردوا على أجهزة الغطرسة والقمع الصاع صاعين، استفزاز أفقد السلطات صوابها فسدرت في غيها، ونسيت أو تناست أن تحدي الشباب يعني اصرارهم، فجلسوا في الطرقات، فزاد القمع، والتهب التحدي، وانضمت جموع من الشعب إلى أبنائهم وهم يرون أن الفزاعة الأمنية طبل أجوف صوته أكبر من حجمه، فيقف فرعون التجبر ليعلن أنه فهم الجموع متوسلاً  إليهم ليقفوا، وأنه مستعد لاصلاح نظامه، لكن هيهات هيهات، فقد انطلق المارد من قمقمه الكرتوني، ليهرب الطاغية في جنح الظلام فاراً بجلده، ويسدل الستار عن أنجح وأكمل ثورة لم يسقط فيها من الشهداء إلا عدداً ربما يتساقط من ظلم الطاغية في كل يوم، وهكذا ثار الياسمين .