سئمت نفسي من الجلوس على قارعة الطريق
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
نفس الوجوه تتكرر في طلتها وهي تمر أمام ناظري منذ سنين طويلة , قد تتغير الأشخاص ويتغير العمر , وتنشأ أجيال وتتبعها أجيال أخرى وأنا مكاني لم يتغير , على قارعة الطريق
يُتخيل إلي أن الزمن قد توقف وأن الحياة ما هي إلا استمرار للتناسل , في وجوه أطفال تظهر إلي بريئة في ذهابها , براءة قد اندثرت في تقاطيع خدودها عند الإياب
مجموعة وجوه نضرة تعلو الحمرة خدودها تقول للحياة لقد اشتقنا إليك , من أعماق أصحاب تلك الوجوه ترتسم مباهج الحياة كلها , مقبلة على أمر طال البعد عنه في بحثي المستديم على قارعة الطريق , تذكرني تلك الوجوه بمعرض للرسم فيه لوحات رائعة رسمت بيد كل فنانين العالم من العصر الحجري وحتى الآن , تخلد فيها معنى الإنسان , ومعنى الحياة والهدف من الحياة .
على ربوة منها ترتسم صورة فتاة واقفة عليها رافعة يديها للأعلى ورأسها مرفوع للسماء , وخصلات من شعرها تتمايل مع النسمات كأنها شلالات تهدر من مكان عال جدا لترسم قوس وألوان قزح من شعاع الشمس والذي يعبر بين تلك الشعيرات , كأنها تقول تعالي يا شمس بين يدي وأنيري لنا الدنيا بيدي هاتين سنرفع عن كاهل حياتنا هذا الظلام الممتد عبر أجيال فقدت مقومات الحياة والتي لم يعرفها أحد ولا حتى هذا الجالس على قارعة الطريق
وشاب مفتول العضلات في لوحة أخرى على وجهه قسمات العزيمة والنخوة والكبرياء , يقف فوق تنين صيني بعد أن قطع رؤوسه الثلاثة , وأطياف أشعة رقراقة تتهادى من عينيها من بحار الوطن وينابيعه وأنهاره , تلف ذلك الشاب بحنان , مرسلة من بين ثنايا زهرة رمان ابتسامة تمسح عن وجه حبيبها قطرات العرق وبقايا الدماء الخبيثة من التنين
أشعة النجوم تتهادى وتتمايل وتتراقص بألوانها المختلفة الجميلة في ليلة صافية من ليالي الربيع وتسرح في الفضاء باتجاهات مختلفة في صورة جميلة رائعة , تزين هذه اللوحة السماوية سفن جوية تنطلق في كل اتجاه , مع مجموعة من الأطفال تنظر إليها تترقب دورها في السفر عبر الفضاء الفسيح لرحلة طال انتظارها ليكون القمر والزهرة والمريخ رحلة من رحلات الصيف أو الشتاء
وتتعدد اللوحات في جمالها وتعبر كل لوحة فيها عن الأمل في الحياة , أزهار الربيع المتنوعة , وثمار فصل الصيف الجميل , وأشجار الحور والزيتون والصفصاف والسنديان , ومصانع ومعامل ونقاء الحياة والأسر السعيدة
لم أجد اللوحة الكئيبة والتي اعتدت عليها , أخذت أبحث بين الوجوه فلم أجدها , حاولت التركيز أكثر حاولت الدخول في أعماق النفس , وسبرت كل زاوية وكل مكان ولكن عبثا لم أجدها فرحت عندها وكتمت فرحتي في نفسي حتى الإياب , إياب هؤلاء الوجوه , فقد تتغير لتعود لكهولة معروفة عند الجميع
لم اخرج من هذا المعرض إلا بثرثرة بعضهم عندما أحاطوني من كل جانب , يسلمون علي واحداً.. واحدا , ولمست القوة في أيديهم هذه القوة لم أعهدها فيمن أعرفه منهم من قبل ,لتنقل تلك القوة لجسدي الهرم في عزيمة دخلت عضلاتي الضامرة , فنهضت واقفا بينهم كنمر انتفض من تحت كومة من القش كان مختبئاً فيها
فقال لي أحدهم : ألم تسأم من الجلوس هنا على قارعة هذا الطريق يا عم؟
فقلت له , لو كان لي مكان خير من هذا لبحثت عنه حتى أجلس فيه ولكن يا ولدي إن الأخلاق تولد في جزئها الكبير مع ولادة الإنسان ويكتسب البقية منها من المجتمع الذي يعيش فيه في موروثاته الأخلاقية والتي اكتسبها عبر الأجيال المتتابعة , ولكن هذه الأخلاق الجميلة الفاضلة لم يبق منها في البيوت ما يذكر وانعدمت كليا في القصور والمباني الضخمة , وأصبح الطريق أقل سوءاً منها ففضلت الجلوس هنا , ولن أتحرك إلا إلى قبري أو أجد لوحة كنت أبحث عنها طيلة عمري
فابتسم لقولي وشعرت بأن تلك الابتسامة قد مسحت كل درن عن جسمي المبتلي من قارعة الطريق
فتقدم أحدهم لعندي وقال لي :
هل تقول لي ما نوع اللوحة التي تبحث عنها حتى آتيك فيها ولو كانت في ذلك القصر الشامخ بفساده والذي تعرفه حتما ؟
وهذه المرة لم يتملكني الخوف والذي كان يمنعني من سؤال الناس عنها , فقلت له تعالى حتى أهمس في أذنك , وعندما همست في أذنه وفهم قصدي , قال لي ضاحكا بلباقة وخفة دم وعزيمة قوية ستجدها بين يديك عند عودتي
فتركوني وحدي تدندن نغمات كلمات فتاة كانت معهم في أذني وتطرب مشاعري
بلادي .. بلادي .... بلادي ......أنت حبي وفؤادي
ثم جلست في مكاني المعهود , وحاولت طرد تلك النغمات من خاطري , ولكن لساني أبى إلا أن يرددها , وازدادت قوتها في حلقي ونطقها بقوة لساني , واجتمع الناس حولي , فعجبت منهم كل العجب بحيث لم يرددها معي أحد منهم , ومع قولهم فرادا وجماعات لقد جن الرجل , ولكن صوتي عاد لشبابه وهو يرددها بكل قوة وبدون خوف من أصحاب البدلات الرسمية , ولا حتى من ماسحي الأحذية من رجال المخابرات , مع أن مهمتهم هي بالأساس القضاء على كل صوت ينادي بحياة الوطن , ويجب أن تكون كل الحناجر في البلاد اسطوانة مسجل فيها بالروح بالدم نفديك يا فلان
وعندما تعبت من الهتاف , جلست على حافة الطريق ونفسي ترددها وتزيد عليها بالهتافات القديمة والتي طوتها الأيام المظلمة لتعود لشبابها مرة أخرى , وأخذتني سنة من النوم لا أعرف طولها ومدتها مع طرقات قوية تطرق مسامعي قبل أن افتح عيناي تقول : بلادي... بلادي , وافتكرت أن نفسي مازالت ترددها , وأنا بين النوم والصحو قويت الهتافات وأحاطت في من كل مكان , فاضطرني الأمر لكي أفتح عيناي وأنظر ما لجديد
وكانت المفاجأة الكبرى
كل ما يحيط في قد تغير ,الوجوه تغيرت والأرض تغيرت والسواد انقشع من السماء والكل على وجهه الفرح والكبرياء مرسوم بكل اللوحات التي شاهدتها على الوجوه التي مرت من أمامي قبل مدة
إنه هو الذي وعدني باللوحة , إنه يتقدم نحوي فرحا إنه يحمل البشرى والتي انتظرتها كل حياتي على قارعة الطريق , يضع يديه وراء ظهره لابد من أنه يخفي شيئا
فقال لي السلام عليكم يا عم
ولكن لم أستطع رد السلام وإنما قلت له :
أجد على وجهك البشرى والسعادة , وعدت فرحا ونضراً أكثر مما كنت عليه عند ذهابك فهل تقول لي ما لأمر يا بني ؟
فقال قد جئتك بالبشرى وستردك لشبابك الذي ضاع ,فهذه هي اللوحة والتي كنت تحلم فيها طيلة حياتك
ولكن لن تكون ملكك فهي ملك الجميع , فانظر إليها جيداً وقل لي :
أليست هي اللوحة التي همست في أذني من أنك تود رؤيتها ؟
نعم يا بني هذه هي الصورة , صورة كهف عميق في داخله مجموعة من شياطين كانت تتربع في تلك القصور العالية , والتي مسخت من صورة بشر إلى أشكال قد لا يضاهيها قبحا ولا حتى أبغض الشياطين ويحيط فيهم أفاعي كثيرة وعقارب تنهش من لحومهم وهم يستغيثون وحولهم نار مستعرة يغذيها جمع غفير من نساء وأطفال ورجال وشيوخ من ضحايا هؤلاء
وعلى باب المغارة شجرة قديمة يابسة نبتت من قاعدتها فروع خضراء باسقة تقول :
فلو فنيت أنا ولكن جذوري لن تفنى ستنبت هذه الجذور الراسخة في أعماق الأرض جميع أنواع الأشجار الطيبة فإن أصاب الجذع هرم ولكن الجذور الراسخة في تربة هذا الوطن قادرة على الإنبات من جديد
فقبلت الشاب في رأسه فرحا ونظرت إلى مكاني المعهود فقلت :
لقد سئمتك وسئمتني ولن تراني هنا جالسا بعد اليوم.