الاحتفال

أحمد حمودة

* كنت لا أدري أين.. ولكني صرت طفلا صغيرا فبدت لي الألوان بمذاق الحلوى، والأشياء رؤوس أغوال، وتحولت الكلمات كائنات ترقص، وأخرى ساكنة تعبَق بالحكمة، وكان المكان ساحة موسم لعله موسم ولي من أولياء المدينة، أو لعله مهرجان من مهرجانات الزمن الراحل..

ابتسمت فيه الوجوه، وتدافعت المناكب دون تذمر أو شكوى ، وكنت بحيرتي ضائعا بين الأرجل، أتحرك حيث تدفع بي، ولا أكاد أعرف لي وجهة، ورائحة العرق والغبار يملآن خياشيمي، وبين الحين والحين أنفلت إلى فسحة أسترجع فيها أنفاسي ثم تجرفني الجموع ثانية ، فإذا بي ضائع بين الأرجل والمناكب، فما أشبهني بمن يخوض نهرا جارفا حالما بالضفة...

 وكان الصخب يعلوا حينا ويشتد ثم يخف قليلا ليعود ثانية إلى علوه يمتزج فيه هتاف الباعة بأصوات العازفين والمغنين، وفرقعات البارود بضجيج الطبل، وضحكات الباغيات المبتذلة بأناشيد أدعياء الجذب الصوفي.. وكنت في كل ذلك أزداد حيرة واضطرابا، ثم كان الإنكار قد ملأ كل شيء مني، فلا أرى إلا خرافا وشياها في حفل برسيم بئيس تنتشي بقضمات واهنات، وإلا ذئابا تزعم التبسم إذ فُرَّت عن أنيابها، فنبا عني الانتشاء وافتقدت الفرجة، وأخيرا لفظني النهر الجارف أمام خيمة كبيرة ينادي حاذق على بابها، والحفل أغنيات ورقص شعبي وتمثيليات هزلية، وتفقدت دريهماتي القليلة في جيبي.

 * ثم وجدتني في خيمة شعشعت في سمائها المصابيح وزهت في جنباتها الألوان فانكفأت طفولتي تبدع عوالم من السحر تَبْهَر العُيونَ، وابتدأ الحفل بالعزف المطرب تلته بهلوانيات ثم كانت الحكاية رأي العين، وفيها كان رجل يبوء بحمل ثقيل من الخواء والذلة، وإلى جانبه ارتفعت في يد عاتية هراوة لا رفق معها ولا رحمة فتعالت صيحاتُ الرجل طالبا الصفح من صاحب الهراوة والنجدة من طفولتنا، وكانوا حولي من ضاحك وصارخ ومشفق لكنهم محتفلون ...

وما فتئ الخفير يهوي على أم رأس الرجل بهراوته فيصيح: "أي أيي أرجوك لن أعود إليها أبدا لن أعود، آي، لقد تجاوزت حدودي لجهلي، آي"، والأطفال يضحكون للموقف في إشفاق وبعض الطفلات أظهرن عطفا عليه فتوقفن عن الضحك لما ازداد إلحاح الخفير بالضرب. 

* ورأيتني على غير حالهم بدت لي الهراوة هراوة حقا، ورأيت الضعف والوهن المقيت حقا، وكانوا جميعا حولي ما بين خفير قاس وواهن خواء، فما كنت ضاحكا ولا مشفقا، بل اشتد غضبي عليهما معا، ولم أبد اهتماما أيهما الظالم...

وحين التفت الخفير منتشيا فاتلا شاربيه سائلا الأطفال: "أأزيده ضربا؟"

رد الأطفال: "لا، لا تضربه.. يكفي.. يكفي"

لكن لم تكد تهدأ الأصوات ويعم الصمت حتى وقفت صارخا بأعلى ما أستطيع:

"اضربه.. اضرب أيها الخفير القاسي المجنون الرجل الواهن بشدة!! إنه يستحق مزيدا من الضرب!! إضربه، إضربه، إضربه.."

* ووجدتني جالسا في فراشي أتصبب عرقا...