حيلة الثوار

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

قد لا تنتظر الحمير كثيرا حتى تثور على مالكيها إذا لم تنل نصيبها العادل من العلف أو الشعير ، خاصة بعد إجهادها بالحراثة والركوب والتحميل ، وأما هذه الشعوب البائسة فقد أولغ حكامها المستبدون في إذلالها وإستعبادها ، فهي تكد ليل نهار لتنتزع لقمة عيشها ملفوفة بخبز البؤس ، ومغمسة بزيت الصبر والمرارة ، ولا يدع لها الحاكم الفاسد المستبد دقيقة راحة من ليل أو نهار كي لا تفكر في غيررغيف الخبز ولقمة العيش .

لكن هذه الشعوب المسحوقة إذا انتفضت ضد حكامها المستبدين فإنها لا ترضى بالهروب من الإسطبل كما تفعل الحمير ، لأن الإسطبل ملكها ، وما أولئك الطغاة إلا إقطاعيون ظلمة يظنون الوطن مزرعة لهم قد ورثوها من آبائهم ، يمتصون خيرات فلاحيها وعمالها ، ولا يؤدونهم أجورهم ، لكن هذه الشعوب المستعبدة ما إن تتمكن وتأتيها فرصة التغيير، حتى تنقض على مستبديها فتقطعهم بأسنانها وتسحقهم بأقدامها .

بعد أن أعلن بعض الناشطين من الشباب المتحمس عن عزمهم للقيام بمظاهرة سلمية ، وقد ضاقوا ذرعا وطفح الكيل بسبب الأوضاع الإقتصادية المتردية في البلاد ، وخنق الحرية ، وانتشار الفساد ، وبعد أن هبت باتجاههم نسائم حرية وعبق كرامة من دول الجوار ، وهم يعانون من الفساد والاستبداد وسياسة الذل والاستعباد ، الذي يستشرى في البلاد طولا وعرضا ، ومافيا العائلة الحاكمة تتغول على حساب الشعوب البائسة التعيسة ، فتزيدها بؤسا على بؤس ، وسلطة الفساد تضاعف أرصدتها وتحولها إلى الخارج .

 عندما قرأوا عن يوم التظاهرة السلمية التي أعلن بعض الشباب عزمهم على القيام بها أمام مجلس الشعب في العاصمة وأمام مبنى المحافظة في المدن الأخرى للمطالبة بالإصلاح وتحسين الأوضاع الاقتصادية والمعيشية ، فأشعلت تلك الدعوة في نفوسهم ثورة الحماس وأججت لهيبها ، فقرر الشبان الثلاثة الذين لا ينتمون لأي حزب سياسي ، ولا تجمع نقابي ، أو تكتل وطني أوأي تيارسياسي أو غير سياسي ، وإنما كان انتماؤهم الوحيد والمتجذر إلى الأعماق كان إلى هذا الوطن وشعبه المقهور البائس ، والذي يعاني من استبداد النظام وفساده ، وقد أعتلت مراكز القرار فيه الرويبضة من التافهين ، وتلك البطانة المنتفعة التي التفت حول حاكمها المستبد في جمهوريته الوراثية ، التي تقمع الشعب بالنيابة عنه ، وتسومه الذل والهوان كأنها تنتقم منه ، أو أن عداوة مستحكمة بينها وبينه من عشرات السنين .

كتم الشبان الثلاثة ( جهاد ونضال وثائر ) أمرهم وانطلقوا على حذر باتجاه ساحة التظاهر أمام مجلس الشعب الموقر ، ومجلس الشعب هذا اسم على غير مسمى – كقصر الشعب تماما - وهو مجلس هيكلي كرتوني لتنفيذ الأوامر العليا وإضفاء الشرعية على قرارات الحاكم الأوحد والحزب الشمولي ، وهو أبعد ما يكون عن الشعب لأنه لم ينتخب من الشعب أصلا بمعنى الانتخاب ، ولا يمثل إرادة الشعب وتوجهاته ، وإنما يتم تحديده من قبل أدوات الاستبداد وقيادات الحزب الشمولي ، وقد احتفل بعض هؤلاء الأعوان والحاشية مما يسمى أعضاء مجلس شعب ابتهاجا بفوزهم – تحت اسم مهرجان تأييد انتخابي – قبل الانتخابات بشهرين ! .

وجدوا الشوارع المؤدية إلى الساحة أمام محلس الشعب تغص بعناصر القمع من أدوات النظام المستبد مدججين بالسلاح ، وآخرين من الحاشية والمنتفعين تراقب الشوارع وتجوبه يمنة ويسرى وبعضها الآخر يعلق صور الطاغية على واجهات المباني وأبواب المحلات ، وآخرين يلبسون لباسا مدنيا ويخفون أسلحتهم تحت ثيابهم السوداء بملامح غريبة يعرفها جميع أبناء الشعب بلهجتهم المميزة والتي استعان بهم الطاغية على أبناء شعبه من حلفائه الإقليميين ، والذين تريطه بهم علاقة نسب طائفي قديم .

انطلقت ثلة من الشباب يهتفون بصوت واحد مطالبين بالإصلاحات والحرية ، فاندفع نحوهم عناصر القمع من كل حدب وصوب بالعصي والسياط الكهربائية ، وزخات من الرصاص تنهمر من حولهم على مستوى منخفض ، فرفعوا أيديهم مستسلمين ، وهم يرددون هتافهم : سلمية ... سلمية ، فأسرعت نحوهم أدوات القمع تحيط بهم وتشبعهم ضربا وركلا حتى سقطوا على الأرض ، فقيدوا أيديهم وجرّوهم إلى سياراتهم لينطلقوا بهم إلى مراكز القمع البوليسي وأقبيتها وزنازينها .

كما اعتقلت مجموعة الشباب الناشطين التي دعت لهذه التظاهرة فجر يوم التظاهرة من قبل زبانية النظام مما يعرف بزوار الفجر ، وقد هدد النظام باستخدام العنف ضد كل من تسوّل له نفسه بالتظاهر سلميا كان أوغير ذلك ، ضد ملهم الأمة والحاكم الأوحد .... والمبايع لللأبد ! .

 هذا من جهة ومن جهة أخرى خذلت وسائل الإعلام التي كان لها دورا بارزا ومميزا في بلدان الجوار بإيصال صوت الناشطين إلى العالم العربي والإسلامي بأسره ، فقد تم استدعاء مدراء مكاتب هذه القنوات النشيطة ، وبلغت بيانا تحذيريا يقضي بعدم القيام بأي نشاط أو تصوير أو إذاعة أي خبر عن هذه التظاهرات والإحتجاجات وكل ما يتعلق بها والناشطين الداعين إليها عبر فضائياتها ، وإلا فإنهم يتحملون كامل المسؤولية لأي تجاوزيقومون به ، من المنع بالقوة ومصادرة الأشرطة وأجهزة التسجيل وإغلاق مكاتب هذه الفضائيات الأخبارية وسحب تراخيصها ..... بل والإعتقال ! .

وزيادة في الأخذ بوسائل الأمان والاحتياط من قبل هذا النظام القمعي المستبد ، الذي تمتد خبرته لعشرات السنوات ويحتفظ بتاريخ أسود حالك من الإعتقالات والمجازر المروعة ضد أبناء شعبه ، فقد جهزوا مكاتب خاصة لهذه الفضائيات ( المشاغبة ) داخل مبنى التلفزيون نفسه ! ! . .

فشلت المظاهرت في العاصمة ، إذ تم وأدها بإجراءات قمعية من نظام حكم عسكري بوليسي ، وذلك باعتقال ناشطيها ، وترويع مؤيديها قبل موعدها ، وإبعاد الإعلام عن تغطيتها سواء بقطع اتصالات الفيس بك والتويتر وغيرها ، أو بإبعاد القنوات الفضائية النشطة بالإسلوب البوليسي من الإرهاب الذي ذكرناه ، في حين قامت بعض المظاهرات المتواضعة في بعض المدن البعيدة ، ففرقتها بالقوة وبعنف أعمى ، مع اعتقالها أعدادا من المشاركين بعيدا عن وسائل الإعلام .

عاد الشبان الثلاثة وقلوبهم تكاد تنفجرغيظا من تصرفات هذا النظام القمعي ، ومن وسائل الإعلام التي رضخت للتهديد والتزمت الصمت كشيطان أخرس ، فقرروا أن يفعلوا شيئا بعد أن تعاهدوا على السرية والكتمان .

 فوجئ المواطنون كما فوجئ بوليس النظام وأدوات قمعه ، عندما شاهدوا في الشوارع المؤدية إلى محلس الشعب في نفس اليوم بعد العشاء قوافل من الحمير الهائمة ، والكلاب الضالة ، والقطط الطوافة تجري مذعورة .... وغيرها من هوام الأرض والمخلوقات العجماء ، وقد لفت بعلم البلاد وكتب على العلم بدهان أسود وخط عريض عبارات كانت معدة للهتاف بها في التظاهرة ، قرأها بسهولة جميع المتواجدين في تلك الشوارع المزدحمة والتي تغص بالسيارات والمارين للتسوق والتنزه والعائدين من العمل إلى بيوتهم في تلك الساعة .

كتب على العلم الذي لف حول خصر حمار : " يسقط الطاغية " .

وعلى حمار آخر : " يسقط النظام " .

 "ولى عهد الاستبداد" كتبت على ظهر كلب أبيض كبير بشعر غزير، وأما على الحيوانات الأخرى الثائرة فقد كتبت عبارات وشعارات مختلفة :

* انتهى عهد الذل والخنوع والاستعباد .

* أفيقوا من سباتكم أيها الطغاة فنحن في القرن الحادي والعشرين .

* إرحل قبل أن ترحل .

* اقتربت ساعة الخلاص .

* أقبلت رياح التغيير.

* هبت نسائم الفجر.

* لك ساعة يا ظالم .

* إرفعوا حالة الطوارئ والأحكام العرفية في البلاد .

* حرية الرأي والكلمة والتعبير والمعتقد .

* حقوق مواطنة متساوية وعدالة اجتماعية .

‘ دولة مدنية ديموقراطية ، لا دولة عصابات بوليسية ومحاكمات عسكرية .

* قضاء مستقل حر نزيه .

* مجلس تشريعي مستقل كفوء ومنتخب بطريقة حرة وشفافة ونزيهة .

* دولة كفاءات وخبرات ... لا طوائف وشلل وعصابات .

* محاسبة المفسدين واسترداد أموال الشعب المنهوبة .

* إنهاء البطالة وتهيئة فرص عمل كريم للشباب .

* أفرجوا عن جميع سجناء الرأي والمعتقد .

* تعددية حزبية وانتخابات حرة نزيهة وانتقال سلمي للسلطة .

* لا بد لليل أن ينجلي ..... ولا بد للقيد أن ينكسر

* نسائم الحرية أقبلت .

* تنحوا أيها المفسدون للشرفاء

* ابتعدوا أيها المستبدون وافسحوا الطريق للأحرار .

أما الحمار الكبير الذي كان يتقدم المسيرة والذي سقط مضرجا بدمائه بعد أن قرأ أزلام النظام وأدوات قمعه العبارات التي كتبت على العلم الذي لف حول بطنه وظهره وكتب بخط واضح أنيق ببنط عريض وألوان متداخلة مختلفة يسهل قراءتها من بعيد ، وفوق ظهره كان مئات النشرات التي تناثرات على الأرض ، عندما روعه حماة النظام وهم يطلقون عليه الرصاص بلؤم وحقد .

" استجيبوا لنداء الشعب واسمعوا صوته وأصغوا لمطالبه ، وإلا فإننا سنوصل صوتنا إلى الطاغية وجميع أزلامه وحراسه وبطانته وحواشيه ... سوف تسمعون مطالبنا ونسمع العلم كله صوتنا ، وستصلكم مطالبنا في قصوركم المحصنة العالية ، ومكاتبكم المحروسة المنيعة .... وحتى في عقر داركم وغرف نومكم ، ولن ترهبونا مهما فعلتم ، ولن تستطيعوا منعنا من ذلك ..... ولن نعدم الوسيلة ... وإن كانت عبر صواريخ نفاثة نرسلها لكم ............ وستكون بدايتها على صواريخ من ورق " .

أسرعت أجهزة القمع والاستبداد بالهراوات والعصي والسياط الكهربائية لتفرق التظاهرة وتلقي القبض على أنصارها من الحمير والكلاب والقطط وجميع الحيوانات الهائمة لتسوقها إلى زنازين السجن وأقبية التحقيق ، وهذه بحد ذاتها تحتاج إلى قصة أخرى بعنوان : " التحقيق مع الحمير والكلاب " لتصور ما تعرضت له هذه البهائم العجماء من عزل في زنازين منفردة وتجويع ... وصعق كهربائي وتعذيب ، والأحكام التي صدرت بحقها من قبل تلك المحاكم العسكرية الموقرة ! .