الحفّار
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
انه ضخم الجثة ، عريض المنكبين ، متورّد الوجنتين ، مفتول العضلات ، قوي البنية و هذه السمات ربما هي التي كانت وراء اختياره لمهنته – فكأنّه لا يصلح إلا لها .فقد امتهن حفر الآبار المنزلية التي تتطلب جلداً و صبراً و كذلك اهتم بالاعتناء بالحدائق و بناء السلاسل الحجرية في الأراضي الزراعية و ذلك حماية للتربة من الانجراف .و كان معروفاً عنه دقته في العمل و إبداعه في الأداء و لم تكن عنده ساعة محددة للانتهاء من العمل بل أحياناً يمتد به إلى ما بعد غروب الشمس ، و عادة ما كان يأخذ معه زوّادة فيها من المؤونة ما يكفيه و من الماء ما يروي ظمأه. و يعمل دون مساعدة من أحد فقد عمل في معظم مقاولاته الصغيرة وحيداً بلا كلل و دائماً ما كان يسلم المشاريع في موعدها المحدد.
كانت هناك أرض زراعية يملكها أحد الفلاحين و يقع في وسطها بئر قديم جداً حفره أجداده و طالما كان يستخدمه في ري مزروعاته و سقي دوابه...و لما اكتشف انه أصبح في حالة يرثى لها و أن الحجارة المتساقطة و التي يرمي بها المتطفلون أصبحت أكواماً متراكمة ، و أنه بحاجة إلى صيانة ماسّة و خاصة الأرضية التي بدأت عاجزة عن الاحتفاظ بمياه الأمطار شعر أن الوقت قد حان للاستعانة بالرجل الضخم و الذي لقّبوه بالحفاّر تودداً.
لا أجد أفضل منك للقيام بهذه المهمة
نحن رهن إشارتك...أجاب الحفّار بابتسامة لم يتّسع لها وجهه و سرعان ما تم الاتفاق على الأجرة على أن يتم العمل فوراً.
عشيّة البدء في العمل نام الحفّار مرتاح البال قرير العين فقد تمكن من إبرام صفقة رابحة ، و مع صياح الديكة في الصباح الباكر نهض و أعد نفسه و حماره و انطلق مبكّراً عبر الطرق الوعرة و بعد ساعة وصل للأرض الزراعية. أنزل سلّماً خشبياً إلى قاع البئر بعد أن ربط حماره في جذع إحدى أشجار الزيتون المعمّرة. قال : باسم الله ، و نزل بحذر شديد حيث كان البئر معتماً بعض الشئ . وجد أن الماء شحيح و متجمع في أحد الزوايا. مسك المجرفة و قبل أن يشرع بتهيئة الأرضية و تنظيفها طرق مسامعه صوت نهيق حمار...ظنه صوت حماره و لكن ما لم يتوقعه أبداً أن يكون الصوت صادراً عن حمار آخر كان قد وقع في البئر حيث أن مدخله واسع بعض الشئ و لا يوجد أي غطاء له. كان النهيق أقرب إلى صوت استغاثة غير أنه حاد – فهو صادر عن حنجرة حمار مكلوم.
يا فتّاح يا عليم ، صاح الحفّار بعفويته المعهودة. ما العمل ؟
فكّر مليّاً و أخذ يذرع المكان الرطب جيئة و ذهاباً ، تعثّر ببعض الحجارة المتناثرة ثم انتصب واقفاً...يداه معقودتان خلف ظهره مثل حنظلة .
وجدتها ...وجدتها ... صاح الحفّار كمن اكتشف كنزاً مدفوناً. اقترب بهدوء من الحمار بعد أن قام ببعض الحركات الاستعراضية في الهواء كما يفعل المصارعون قبيل تسديد الضربة القاضية ، ثم توقف قليلاً فهو يواجه الآن صراع الإقدام و الإحجام ، غير أن ذلك لم يدم طويلاً. ذكاء الحمار لم يسعفه كثيراً في إدراك ما يجري من حوله سيّما و أنه كان خائر القوى بعد سقوطه من عل. قام الحفّار بحركة خاطفة حمل على إثرها الحمار على ظهره و اتجه به نحو السلّم للخروج من هذا النفق المظلم .نهق الحمار..غير أن نهيقه كان أهزوجة الفرح على طريقته الخاصّة و ما هي إلا دقائق حتى كانا خارج البئر .
تقدم الحمار المربوط نحو الحمار المنهك مهنئاً بسلامة الوصول بأن ضرب بحوافره بالأرض ، أما الحفّار فقد جلس تحت شجرة أخرى كي يستمتع باستراحة المحارب.