قدر أكبر من الصمت

هدى الرواشدة

[email protected]

 ذات ربيع كما لو كان صيفا ، يكاد وهج الشمس يشوي أدمغة العصافير ، ما الذي جعلها تعقد صلحا مع جسدها ذلك الصباح ؟! أصلحت من هندامها و أضفت على وجهها بعضا من الألوان لتحرره من كآبة اجتاحته منذ زمن ؟ ما الذي جعلها تغادر مقر عملها مبكرة على غير عادتها ؟!

 كيف حدث لقدميها أن تحركتا في ذالك الطريق الضيق المتعرج دون إيعاز ؟! فتكون الجبال على يمينها ، و هوة عميقة متدرجة الانحدار على يسارها ، غطتها أشجار زيتون شهدت للمكان صولات وجولات ، وعلى جانبي الطريق نمت نباتات ذات نفع تطفلت عليها أخر ى شائكة فضولية كبعض بني البشر .

 في المكان ثمة أودية ، تنساب فيها مياه رقراقة ، تنبع من عيون أزلية لا تنضب ، تتفرع منها قنوات تسقي الزرع كالأوردة للجسد .

 في الأفق صفحة زرقاء من بحر الملح ، تلتحم مع زرقة السماء فتضفي على الدنيا رونقا أبديا خالدا ، وهكذا مشهد يبدأ بحياة ليموت غرقا في بحر الملح ، ثم يحيا من جديد .

نسمات هواء عليلة أخذت تهب من البعيد البعيد ، تداعب وجنتيها ، ترطبهما ، وتشحن قدميها سرعة . تهتز تبعا لذلك حقيبة يدها ، فتنساب منها ذكريات تنبت خضراء جميلة على وقع قدميها كانت يوما أحلاما وردية .

 شيء ما أقنع البحر أن يطلق للعنان أبخرة حارة ، سرعان ما تكاثفت فشكلت سحابة ، أخذت تسير نحوها ، ارتطمت بالجبل فأفرغت أثقالها أمطارا نيسانية من فوقها . أخذت حبات المطر تتراقص شفافة لامعة أمام ناظريها ، امتزجت مع بقع ضوء سبقتها بحين في الرقص ، لتنذرها بنوبة صداع آتية لا محالة . شيء ما أيضا جعل الريح تحرك الأغصان ، فيفوح شذى أزهار الليمون ،استنشقته فأحبط بدوره إحساس بغثيان ، دائما ما كان يلازم بقع الضوء ، ليؤكد نوبة الصداع تلك .

 إذا كان شعورها بنوبة صداع أكيدة ستفتك بنصف جسدها لا محالة ،بل وربما يتحول إلى قنبلة عنقودية ، قد تطيح بأكمه فيتشظى من ألألم هو ما قاد قدميها ذالك الصباح لا شعوريا نحو عيادة المركز الصحي ، لتحضر دواء تخمد به بركانا حتما سينفجر الليلة في رأسها .

 دخلتْ المركز ، تنقلت عيناها داخله ، مقاعد خالية أنهكها الزمن ، دخلت عيادة الطبيب ، مقاعد منهكة أيضا و سرير كانت ملاءته يوما بيضاء ، مكتب جوانبه متآكلة ، تستلق على أحد أطرافه سماعة و على الطرف الآخر جهاز لقياس الضغط ، راودتها شكوك بمدى كفاءتهما ، تتوسطهما علبة تحوي أعواد خشبية لفحص حلوق المرضى ، وحفنة من حبات لوز أخضر ، خلف المكتب مقعد جلدي ، يتباهى بارتفاعه وحجمه على غيره من المقاعد ، يليق بمنصب الطبيب ، لو أنه فقط نجا من فئران الزمن التي قضمت من جلده جزءا لا بأس به ، احتوى طبيبا كما احتوى قبله العشرات من كل الأرجاء ، كتبوا على هذا المكتب وصفات أدوية لأمراض متواضعة شقوا بها بداياتهم .

 كان الطبيب مطأطأ الرأس غافيا ، أصدرتْ نحنحة فشعر بوجودها ، رفع رأسه وما أن التقت عيناهما حتى انسكب شيء من الصمت بينهما ، و حوار صامت بين وجهين ، أخذ كل واحد يبحث عن ملامح له فقدها في تضاريس وجه الآخر ، ذكريات طفولة وصبا ، ودراجات هوائية خطت عجلاتها دروبا على جبينيهما.

 قدر من الصمت يليق بتلك الأحلام الموءودة ، قدر من الصمت يتيح للدم المحتقن أن ينز ليورِد الوجنات خجلا ، كتلك الحمرة الخجولة قبل عشرين عام ، و هي ذاتها من باعدت بينهما عشرين عام أخر .

 قدر أكبر من الصمت يليق بهذا الهدْر من العمر و بلقاء انتظراه منذ زمن ، شاءه القدر لهما الآن ، أشغلا من وقتهما الكثير في إعداد حواره ، من سيبدأ أولا ؟ وأي سؤال سيطرح ؟ و أي أداة استفهام سيستخدم ؟

 كان من بدأ الحوار ، سبقها بسؤال أرادت هي أن تسأله إياه انتق له الأداة " لماذا " أراد بها أن يظهر بواسطتها براءته وجهله بالأسباب ، قالها وسكت ، لم يضف كلمة واحد لها أغلقها فورا بعلامة تعجب و استفهام .

 أجابته:

-      غادر تني من أجل سماعة صدئة ، و جهاز ضغط خادع ، وأعواد خشبية تثير الاشمئزاز ، وأنت من قلت يوما " أن من يفقد تاريخه فإن الأرض من تحت قدميه ستسحب منه فيقع في ترنح " . غادر تني ، فغادرتك ، شققت الدرب برفقة أسمر من بلدي .

أجاب :

-      ما سعيت لهذه السماعة ، و لا لجهاز الضغط هذا ، إلا لأصعد بهما إليك ، و دليل ذالك أني لم آتي و برفقتي شقراء.

أجابت :

-      هذا ما قدر الله و ما شاء ، ما كان بيننا غير هوة من الصمت ، أخذت تتسع بيننا حتى تحولت إلى جثة ، تناصفناها ثم دفناها في صدورنا ، وأخذ يلازمنا شبحها ، يذكرنا بفجيعتنا ماحيينا .

قال وصمت :

- ليت الزمن يتوقف الآن !

 علقت قائلة:

-      مسكين هو الزمن ! كثير ما أشفق عليه ، هو مشجبنا نعلق عليه أخطاءنا ، وها أنت تتمادى في أمنياتك تطلب منه أن يتوقف بنا ، الزمن لا يغير خط سيره كما غيرته أنت ، الزمن ماض وحاضر و مستقبل ، أما أنت فلا حاضر و لا مستقبل لك بعد أن تخليت من ماضيك.

-      الزمن نهر لا يتوقف عن الجريان ، يجري بنا ، تارة ينساب بنا بخفة تبعث فينا راحة وغبطة ، فنشعر بالأمان فننساب معه مستسلمين ، و تارة تواجهه صخور و تعرجات و منحدرات فيجري بنا جريانا عنيفا ، يقذف الضعفاء منا قذفا ، و منا من يصمد و يقاوم ، ليستسلم بعد حين ومنا من يواصل ، لكنه في النهاية سيلقي بنا لنموت جميعا - أقوياء كنا أم ضعفاء - غرقا في قاع بحر أو محيط .

 قالت منهية الحوار :

-      صف لي هذا الدواء من فضلك ، سأصرفه من صيدلية خاصة،أعلم أن لا حضور له بين أدوية صيدليتكم المتواضعة.

 كتب لها العلاج يعد أن أملت عليه حروف اسمه باللغة الإنجليزية ، و انصرفت من العيادة . تناول هو حبات اللوز الرقيقة، أخذ يقضمها بقوة الواحدة تلو الأخرى مفرغا فيها جم غضبه .

 على وقع خطوات أقدامها نبت ذالك اللقاء ذكرى أخيرة ، ما لبثت أن ماتت على وقع آخر خطوة لقدميها ....

 وقفت على قارعة الطريق تنتظر حافلة لم يوقظها سوى رشق عجلات الحافلة لماء المطر المتجمع في حفر الطريق، ثوبها ابتل واتسخ والحافلة ابتعدت فماذا تفعل؟!

فازت بجائزة أسرة أدباء المستقبل عام 2009