الشهر الأخير
مريم سيد علي مبارك/الجزائر
أنا رجل لا يعرف القراءة ولا الكتابة… أعيش عيش الكفاف والعفاف، قانعا بالخبز الذي أتقاسمه مع زوجتي أحلام الأمية مثلي التي تكنس البيت في الداخل، بينما أكنسه أنا في الخارج فحسب مهنتي تنظيف الشوارع…
أنا وزوجتي متشابهان في كل شيء، لكننا لم نرزق بأطفال ورغم ذلك نحن راضيان…
في يوم مشرق، مشمس جميل، استيقظت صباحا على نشاط غريب في جسدي واجتاحتني رغبة عارمة في كنس كل الأزقة والشوارع...!
فخرجت دون توديع زوجتي… لأني تعوّدت أن ألقي عليها السلام قبل أن أخرج… إلا هذه المرّة…!
حملت المكنسة ككل يوم وشرعت في تنظيف الشوارع شارعا بشارع… إلى أن وصلت إلى حي من الأحياء الراقية، »حيّ للأثرياء فقط …«
شعرت ببعض التعب، فجلست على كرسي من الإسمنت لأرتاح، ورحت أتأمّل القصر الذي يقابلني وإذا بامرأة حسناء ذات جمال فتان، تمد رأسها من النافذة تشير بإصبعها صوبي تدعوني للاقتراب…
في البداية تعجّبت… هل أنا من تنادي عليه ؟ استدرت خلفي، لكنني لم أجد غير ظلي فأدركت أنني المقصود…
اقتربت من المكان، وأخذت معي مكنستي التي ترافقني كطيفي…
كنت أحسب أنها ستعطيني كيسا من القمامة لأرميه…أو أنها ستسألني عن شارع من الشوارع… أو ربما ستطلب مني أن أشتري لها من المحل المجاور شيئا… وهطلت الأفكار على عقلي الساذج من كل حدب وصوب، قبل أن أصل إليها…
لكني فوجئت بها تطل برأسها من الشرفة تطلب مني الزواج...!
هكذا قالتها بكل صراحة، دون خجل أو خوف أو تردد : "هل يمكن أن تتزوج بي؟؟"
في بداية الأمر، كنت أعتقد أن الأمر مزحة أو مجرّد أكذوبة، كما تعوَّد الناس أن يكذبوا عليّ، قصدا أو دون قصد فينادونني بـ »الزّبال«وأنا الذي ينظف الشوارع…!
بعد إلحاح و إصرار شديدين، لمست الجدية في لحن قولها، رغم غبائي…! فطرحت المكنسة أرضا وهرعت صوب الباب أدقّه…
افتحي الباب، فقد جئتك خاطبا…
قبل أن أصل إلى الباب، تلاطمت الأمواج في قلبي ووصل علّوها خمسين مترا إلى عقلي… فغرقت كل تلافيف مخي في بحار حيرتي !!
»ترى…ما الذي يجعل امرأة حسناء ثرية تطلب الزواج من رجل زبّال...؟ «
طرقت الباب ويداي ترتجفان، ترتعشان من الخوف والفرح الغامضين...!
رحّبت بي كما يرحّب بالملوك وغلَّقت الأبواب…قدَّمت لي في طرفة عين كل أنواع المشروبات المنعشة التي أطفأت لهيب عطشي، ولم أكن أدري أنني احتسيت الخمرة معهم فعقلي ودّعته عندما دعتني امرأة ذات حسن وأموال...! وقالت لي بصوت ناعم رقيق أذبل عينيّ كمغناطيـس منوّم :
- أيها السيد… هل تقبل الزواج بي ؟
كانت ستضيف أشياء أخرى، كان يبدو أن بجعبتها الكثير لتحدَّثني عنه… لكني قاطعتها دون تريث، دون تفكير، دون تمهّل…
- بالطبع… بالطبع… بكل سرور، متى نقرأ فاتحة الكتاب ؟
ولأني رجل يعشق الأموال، يحلم بالثراء…كنت أراها رغم جمالها… ورقة نقدية ضخمة… تحدثني في ليلة القدر…
أضافت قائلة :
- سأكون صريحة معك… أنا امرأة لا أهل لها ولا أقرباء، أعيش وحيدة… أملك محلات للألبسة في بلجيكا وبعض المصانع في أمريكا و محلات للمجوهرات في كندا و…
كانت تتحدث، وكنت أقول في نفسي :
- أما أنا… فقد ملكت بك الأرض والسماء
وأضافت دون أن أقاطعها :
- لقد نذرت أن أعيش ما تبقّى لي من عمر مع رجل فقير، أنسيه هموم الدنيا ومتاعبها…لأمحو عظيم أخطائي… فكم من رجل نهبت أمواله، وكم من صغير اختطفته من حجر أمّه، وكم من امرأة قتلتها... وكم اقترفت من صغائر وكبائر…
وعندما علا شهيقها، أعطتها الخادمة منديلا لتسمح دموعها التي كنت أراها لآلئ ثمينة تكفيني عمرا من الثراء، ثم واصلت بصوت متقطّع :
- لكني اكتشفت أن بي مرضا خطيرا، وأكّد الطبيب أنني سأموت في أقلّ من سنة، وقال ربما في الشهر الأخير…فأقسمت لأبذلنَّها، في إكرام الصغير، وتوقير الكبير، و إطعام الفقير، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر… وها أنذا أعيش ما تبقى لي من فتات الأيام…
كنت أتساءل بيني وبين نفسي :
»ترى، أي نوع من الناس كانت تصنفني ؟ أفي خانة الصغار… أم في خانة الكبار… في خانة المعروف… أم في خانة المنكر…؟«
فأجابتني سذاجتي المعهودة :
»لابد أنها تكون قد صنفتني في خانة الصغار لأني…أصغرها سنّا...«
وعظمت سعادتي عندما علمت أنها ستموت…ونسيت أن الروح قابضها المولى، ولم يخطر ببالي أنني يمكن أن أموت قبلها…
فتزوجتها دون أن أعترض على شيء… دون أن أمانع لسبب ما… دون أن أسألها حتى عن اسمها أو ماضيها، فمالها كان الماضي والحاضر والمستقبل…
ونسيت أحلام… أنستني أموالها بأني متزوج بامرأة تدعى أحلام، تلك المرأة المخلصة…ويا لي من رجل وفيّ...!
تزوّجتها إذن…
قضيت الشهر الأول في المطاعم… والثاني في محلات الألبسة… والثالث في دور الملاهي… وهكذا صرت ألّقب بـ »الرّجل المحترم…! «
عجبا لهؤلاء القوم...! عندما كنت أنظف الشوارع، كنت أدعى »زبّالا…« وعندما عظم مالي ونقص إيماني، صرت رجلا محترما...!
فتركت الصلاة… والزكاة… وكل الشعائر الدينية، وعوض أن أحمد الله على نِعمه، صرت جاحدا أكثر فأكثر… أسكر وألهو مع النساء، وأعود إلى القصر فأجد الورقة النقدية تصلي… وتفطر على آذان المغرب…تصدّق لهذا و تكرم ذاك… وقَسَّمَتْ اليوم، نهاره للذّكر وقراءة الحديث النبوي الشريف وليله لقيام الليل والتهجّد… وواضبت كل يوم على قراءة سورة »القيامة والإنسان والنازعات والنّبأ…« وحفظ سورة التوبة وسورة الملك…
وازداد كرمها معي… فاشتريت مطبعة تلو أخرى، وصرت مدير دور نشر كثيرة، كتبها تدرّ علي أرباحا طائلة وأموالا وفيرة، فيقصدني الكاتب القدير والأديب الشهير والشاعر الكبير…
فأجالس الأساتذة والمفكرين والعلماء… وألقّب »دكتورا « رغم أنني أمّي !!
فعظمت أموالي، وعظمت مطامحي…
وفي أحد الأيام… نصحني أقرب الأصدقاء إليّ بأن أرشح نفسي للانتخابات الرئاسية، ففعلت وازداد طمعي وجشعي وأردت أن أسود الأرض وأحكمها…بعدما ملكت كل شيء فيها إلا العلم...!
شهورا… قضيتها من عمري، قلّبت حياتي رأسا على عقب… ولم أكن أدري أنني سأصبح رجلا آخر في الشهر الأخير… واكتشفت الحقيقة…حقيقة الإنسان…
وحدث ما لم يكن في الحسبان… بينما كنت أعد العد التنازلي لأشيّع الورقة النقدية إلى مثواها الأخير …فاجأتني بالصاعقة ذات يوم حينما دخلت وهي تتراقص طربا وغبطة، رمت الخمار من النافذة من شدة هول الفرح، وغرّدت الحياة فيها قائلة :
- أنا… سأعيش… لقد شفيت، أكد لي الأطباء ذلك… لا أثر لمرضي القاتل… لقد شفيت تماما… سأعيش… سأعيش…
ولاحت ملامح الخيبة على وجهي… لأني اعتقدت أني سأرثها في أقرب الآجال…
أصبح إيمان زوجتي ينقص يوما بعد يوم…فمزّقت كل الثياب المستورة التي كانت تلبسها… واشترت ملابس جديدة لمواسم جديدة…
وتغيّر سلوكها معي… بعد أن كانت الزوجة المطيعة، الأرنبة الخائفة، سقط القناع… وأصبحت تهينني كل يوم وليلة… فتذكّرني بأني»الزّبال« وبأني رجل قذر جاهل وتنعتني بأحقر الألفاظ… لكن أكثر ما كان يحزّ في نفسي ويشعرني بالمهانة هو نعتها لي بـ »الأميّ…«
لكنّي تعلمت …خفية كنت أتعلّم، ومن "سعاد تحلب البقرة" إلى "الفايسبوك" وتحصّلت على شهادات عليا وشهادات تقدير..
تعلّمت لا رغبة في التعلم، جهلا تعلّمت لأتحدّاها… ولم أكن أعلم بأن علمي سيخدمني يوما… فقط الأموال من ظننتها الخادم الوفيّ…
وهكذا… تحوّلت »الورقة النقدية« من دينار إلى دولار…
فكثرت سهراتها الليلية، وصفقاتها الذهبية، وسفراتها الخارجية…
تخاصمنا …فطلّقتني، طلقتني من المال، من الورقة النقدية التي كنت أملكها… من الثروة… من الجاه، من الكنز الوفير… ولم أملك أن أطلّقها إلا من اسمي…
خرجت في ليل بارد ممطر شتوي…
وعدت، كما كنت… بائسا… فقيرا …عاريا، أجرّ خيبات جشعي وطمعي… وأجرّ أحلام في الذاكرة …أين أنت يا أحلام ؟
وتذكّرت زوجتي… ترى هل مازلت على الوفاء يا زوجتي العزيزة ؟ تراك حيّة أم ميتة؟ من أين كنت تقتاتين من بعدي ؟ ترى هل بحثت عني ؟ هل ساءك بُعدي ؟
ورحت أتذكر يوم قلت لها بأني أحبها فردت عليّ قائلة :
- أراهن بأني الأكثر حبّا والأكثر وفاءً لك
أتراك كسبت الرّهان ؟ أتراك تحفظينني في نفسك كما لم أحفظك في نفسي ؟
وتذكرتها مع مطر الليالي… تذكرت أحلامنا البسيطة… تذكرت وعدي لها بشراء غسّالة… شراء برّاد… شراء مكواة…
تذكرت كيف كنا نتقاسم اللقمة واللقمتين، واللمجة واللمجتين… تذكرت وأنَّى تنفع الذكرى…!
تذكرت وأنا أمشي في الشوارع كيف كنت أكنسها… أتمسَّحُ بمبانيها…
عدت إلى بيتي… الذي يكفي أن يهز بابه كتفي ليسقط…
دخلت، فوجدت أحلام نائمة، وعلى الطاولة رغيف وكوب ماء…
وبينما أنا أستعيد تألّق جدران بيتي الباهتة… في الذاكرة، سمعت قعقعة الباب وسمعت وقع أقدام شخص دخل دون استئذان، وإذا بيد تربت على كتفي…
استدرت، ففوجئت بصديقي »صالح« الإسكافي الذي رآني وأنا أدخل البيت مرتجفا، وطبعا سألني عن سرّ اختفائي كل هذه المدة، فحكيت له حكايتي مع الورقة النقدية، أما هو فقد حدثني عن حزن زوجتي وكيف كانت تقضي الليالي وهي تجوب الشوارع بحثا عني، ثم تملّكها اليأس فلبست ثوب الحداد وراحت تنبش قبور الأموات…
حدّثني كيف كانت زوجتي تعمل خادمة في البيوت، لتأكل ما يدرُّه جبينها من عرق…
حدثني كيف كانت تبيت الليالي طاوية لا تجد ما تسد به جوعها، حدثني كيف كانت تقضي الأيام باكية حزينة تنتظر الغائب الذي ذهب دون وداع !!
بكيت في تلك الليلة بكاءً شديدا… لم أبكِ على أحلام لأنها كانت الأقوى… بكيت على نفسي لأنها كانت الأضعف…!
نعم يا أحلام لقد كسبت الرّهان...! أنت الأكثر حبّا وولاءً… أنت الأوفى...!
حكيت لأحلام كل ما جرى، في البداية لم تسامحني وانتابتها كآبة شديدة كآبة الأيام التي أمضتها في انتظاري…
وراحت تطلب مني الطلاق..
ثم ما لبثت أن سامحتني… فقلبها شلال تفيض منه عوالق العفو والحلم والرفق والطيبة والحنان…
ومضت الأيام …علّمت زوجتي مما تعلّمت، فأصبحت تكتب الرسائل و تقرأ الجرائد، وأصبحت معلما في المدرسة، بعد أن أقسمت زوجتي يمينا على ألاّ أعود لمهنة الكنس خوفا من أن أجد ورقة نقدية أخرى…
اشترينا برّادا وغسالة وحاسوبا وأشياء أخرى..
وفي يوم من الأيام، عدت من العمل فتفاجأت بشاب يجلس في غرفة الضيوف، سألت زوجتي عنه فأخبرتني بأنه يدّعي أن عليه دينا جاء ليسدِّده…
فرحت أتقصَّى عن الأمر، وإذا به يعطيني ظرفا كبيرا ويقول لي :
- خذ يا سيدي المحترم، هذا مالك أردّه إليك...
أجبته بدهشة :
- لكن من أنت، أنا لا أعرفك ؟
ردّ علي قائلا :
- ألا تذكر يا سيدي يوم أتيتُ، إلى دار النشر التي تملكها …قيل لي بأنه عليّ أن أدفع عشرة ملايين لأنشر كتابي، فركنت في زاوية أبكي جيوبي الفارغة… سألتني يومها عن السبب وصارحتك بالحقيقة فثارت ثائرة الشفقة في جوفك الكريم وأمرت أن يطبع كتابي على حسابك رغم أنك لم تقرأه… أردت أن تكفكِف دموعي فوعدتك بأني سأسدِّد دينك في أقرب الآجال، بحثت عنك في كل مكان وهاأنذا أفي بالوعد الذي قطعته لك، ولن أنسى المعروف الذي صنعته معي.
رغم أنه شاب صغير فاجأتني مروءته وشهامته، فقلت له :
- أشكرك أيها الشاب …لكن في الحقيقة، المال لم يكن ملكي فقد كنت أتاجر باسم زوجتي السابقة، ولم أعد أرضى بالحرام رزقا ولو وضعت كنوز العالم بين يدي…
لكنّه أصرّ أشد الإصرار على أن أقبل نقوده وأعتبرها هدية، وأهداني نسخة من كتابه الثاني الذي كان أوّل كتاب أقرأه في حياتي…
تلك الأموال أهديتها إلى زوجتي فأعطتها لأول متسول قرع باب بيتنا دون تردد..
هكذا كنت أكسب قوت عيشي من العلم الذي كنت أنفقه…
عندما بقي يفصلنا عن حلول السنة الجديدة الشهر الأخير، فوجئت وأنا أتصفّح الجريدة بخبر وفاة زوجتي السابقة »الورقة النقدية…«
»توفيت سيدة الأعمال الشهيرة …السيدة »ليلى نعيم«، صاحبة كذا وكذا وكذا من الثروات…إثر حادث مرور أليم، حيث لفظت أنفاسها الأخيرة بالمستشفى المركزي… «
وتذكّرت آخر مرة رأيتها فيها وهي في المطعم برفقة أحد كبار رجال الأعمال …وقتها كانت تلتهم غذاءها بشراهة ولم تكن تدري بأن الساعة كانت تلتهم الوقت أيضا…
هكذا إذن توفيت زوجتي النّقدية، كما وعدها الطبيب في أقلّ من سنة …في الشهر الأخير...!
لكنها ماتت عندما شفيت من مرضها الفتّاك… ماتت عندما حدّثتها الدنيا بطول البقاء فيها… ماتت بقلب الأحياء… رغم أنها كانت بقلب الأموات حيّة...!
واعجباه ! عندما كانت ترى الموت قريبا، عندما كانت تراقب الله في جميع حركاتها وسكناتها، عندما كانت تنتظر الموت أتت الحياة…
وعندما باتت ترى الموت بعيدًا… والحياة تدبّ في كل مكان، اختطفها الموت في غفلة منها...!
ماتت ولم تأخذ معها الأوراق النقدية والمجوهرات الذهبية والألبسة الزّهرية… أما أنا فقد أصابتني حمّى شديدة ولازمت الفراش شهرا كاملا …حتى اعتقدت أني لن أنهض أبدا، وعجز الأطباء عن تحديد علّتي…
وكنت أتساءل في نفسي… ترى لو أموت الليلة، ما الزاد الذي سأحمله معي ؟ ماذا أقول لربِّي ؟ هل أحدثه كم من الأموال بذّرت ؟ هل أحدثه كم من الصلوات تركت ؟ هل وهل وهل…؟
مع انقضاء الشهر الأخير شفيت، وشعرت لأول مرّة بأنني ولدت جديدا في الحياة...!
وبحلول السنة الجديدة … بدأت أعيش للحياة والموت معا وفي جعبتي زاد للدنيا ومثله للآخرة..
أنا اليوم، أحتفل بعيد ميلادي الثامن والتسعين…
ولازلت عند حلول كل عام جديد… أنتظر الشهر الأخير…!