الاحتفال بالجنون
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كان
غريب الهيئة رث الثياب كثيف الحاجبين ، يمسك بيمينه غصناً جافاً اتّخذه عصا و في
يساره يقبض على علبة صفيح صدئة يطرق بها بعصاه كأنه يعزف على ناي كلما
مرّ على مجموعة من الناس تلوك الفراغ أمام أحد البقالات أو عند زوايا الأزقّة
فتنفرج أساريره و يلمع الفرح في عينيه عندما يرى بعض الرؤوس تهتز له تشجيعا . و
عندما كان يفرغ من عزفه النشاز يبدأ في الدندنة بصوت غير مفهوم. كان ثمّة
انسجام غريب و حالة تناغم مع الأهالي ، يحييهم و يبادلونه ودّاً . أما الأطفال
فكانوا مشاكسين فتراه يركض نحوهم و يصدر صوتاً كالزعيق فما هي إلا دقائق حتى
يتفرقوا بعد أن ألقموه عدداً من حجارتهم .أطلق عليه الأطفال اسم ( ركس ).كان
أحياناً يطلق الزغاريد فتمتد أعناق الحسناوات عبر النوافذ مثل الاوز تفاؤلاً
بعريس قادم .
قبل
مرحلة الجنون كنت تسمع حكايات نسجها الكبار ممن تجاوز الثمانين عن ركس قبل مرحلة
الهذيان حيث أن كلمة جنون كانت تغضبهم و تغضبه على حد سواء.و الأنكى من ذلك أنهم
كانوا يضفون عليه هالة غريبة معتقدين أنه من أصحاب الكرامات . كان الجدل يحتد بين
الشباب و العجائز إذ أن الشباب كانوا يرفضون التمسّح بالجنون والاحتفال به.
-
و عندما صمت ركس و توقّف نبضه إلى الأبد مشت في جنازته جموع غفيرة لم تجتمع بمثل هذا الزخم في وداع العقلاء الذين رحلوا قبله. و كان ضريحه بجوار احدى الأشجار العتيقة في المقبرة و موضع تقدير و تعلق الى حدّ يثير علامات استفهام.