الجندر

حسين راتب أبو نبعة

[email protected]

جامعة الملك عبد العزيز

كلية المعلمين بمحافظة جدة

 كانت في حالة لهاث دائم وهي تبحث عن كيان لها تحت ظل الشمس فاهتمت بحصد الشهادات و الميداليات و لم تترك فرصة للاشتراك في أية دورة تدريبية إلا و انتهزتها و كانت تتصدر قائمة المرشحين من الجنسين. بدأت بالدورات التخصصية و انتهت بدورة خاصة بالجندر " النوع الاجتماعي" . تناست مؤقتاً أن الحياة بدأت تتيبّس في عروقها و تذوي و أن الهشاشة بدأت تتسلل إلى عظامها الهرمة فذهبت إلى أحد الجراحين المميزين. عمل مبضع جراح التجميل في تضاريس وجهها شدّاً و تعديلاً فأخفى إلى حين بعض تجاعيدها و في جسدها تغيّرت أمور كثيرة بفضل عمليات شفط دهون دقيقة متوازنة جعلتها شبه هيفاء.

 أمضت السيدة ( سراب ) في الوظيفة العمومية ردحاً من الزمن و أفنت زهرة شبابها و بعد أن تبوأت أعلى المناصب هبّت عليها رياح التقاعد فانحنت قليلاً و مرّت العاصفة حاملة معها الكثير. ظلت تحلم بالبقاء في الواجهة و لكن نواميس الحياة لها حسابات مغايرة. في الأشهر اللاّحقة بدأت تشغل نفسها بأنشطة مختلفة و خاصة الأمسيات الثقافية سيما و أنها تعيش بلا زوج و لا أولاد. قيل في ذلك أنها تزوجت ذات ربيع فأصيب زوجها بالسكتة القلبية في شهره الأول مما شكّل لها صدمة ما زالت تعاني منها حتى اللحظة. و ذكر أحدهم أنها أقسمت بأنها لن توسد ذراعها لزوج بعد الحادثة ، و تظاهرت بقناعتها بالمقسوم و أنها رضيت من الغنيمة بالذكرى الحزينة. بينما أكّد بعض الخبثاء انه لم يقترب منها أحد خاطباً قط و أنها ظلت مياهها راكدة ليس بسبب موت الفقيد بل لأنها كانت تفتقر لأية مسحة من الجمال المطلوب.فكانت على حدّ تعبير احدهم معقوفة الأنف ، في صوتها بحّة ، صحيح أنها كانت واسعة العينين – غير أنها تذكّر بعيون بقرة بلهاء!

 عندما هاجمها الفراغ ذات يوم قبيل الغروب قررت الذهاب للحديقة المجاورة لمنزلها ، فقد اعتادت الجلوس على احد المقاعد و شراء صحيفة يومية تتصفّح عناوينها علّها تجد سلوى.في تلك الساعة بالذات وضعت الصحيفة على طرف احد المقاعد الخشبية دون أن تقرأ شيئاً سوى العنوان على غير عادتها .بدأت طقوسها الخاصة في مراقبة العابرين و الروّاد الدائمين للحديقة و متابعة حركاتهم و نظراتهم ، مستمتعة من حين لآخر بدبيب الأطفال و جلبتهم على الأرجوحة أو على البساط العشبي . على مقربة منها كان هناك شاب وسيم وفتاة حسناء تزوجا حديثاً يستمتعان و يلهوان فتتطاير ضحكاتهما في فضاء المكان...و حيث أن ( سراب) كانت مرهفة السمع و ترخي أذنها مثل لاقط – فقد صدمت تلك الضحكات طبلة أذنها فالتفتت لميمنتها ، بدأ العريس يتهيّأ للمغادرة رغم أن عروسه حاولت أن تبقيه لمدة أطول.

-         "أود يا حبيبتي البقاء لأطول مدة ممكنة لولا هذه القردة !" همس في أذن زوجته و بعد أن أحس بأن الفضولية قد سمعت ما قاله لحبيبته بصوت خافت لملم أشياءه سريعاً و غادر المكان على رؤوس أصابعه.