العامرية

جلال عقاب يحيى

مهداة

ـ إلى حماة تعزف نواعيرها جرحها، وأبناءها، وكبريائها ..

ـ إلى بغداد الذبيحة .. عبر عامريتها ..

ـ إلى جميع المهجّرين قسراً، بحثاً عن الحرية، وعن وطن ديمقراطي يساوي بين جميع مواطنيه ..

 (( ملحوظة ))

 تستمد هذه القصة أحداثها من وقائع حقيقية في الشخوص والمواقع، والأمكنة، والتواريخ، وقد اقتضت الضرورة، ومقتضيات هذا العمل القيام ببعض التحوير، والتغيير في أسماء الأشخاص، وبعض الوقائع..

 لم يفكر يوماً أبو محمود (فاضل بن أسعد الآغا) أن يصبح في عداد السياسيين، لاجئاً في العراق، أو هارباً من حكم إعدام صادر بحقه من محكمة أمن الدولة السورية.. بتهمة ( الانتماء للإخوان المسلمين)، تطبيقاً للقانون /49/ الذي وضعه الرئيس السوري، وبصم عليه " مجلس الشعب " كالعادة.. إثر مجزرة حماة الشهيرة: أوائل شباط 1982 ...

 أبو محمود رجل عادي يمكن أن تجده حيثما نزلت إلى الشارع، خاصة مناطقه التجارية المزدحمة، من أولئك المواطنين الطيبين الأقرب للشعبيين المتدينين، الذين رضعوا الدين مع حليب أمهاتهم، وتهجيتهم لأولى الكلمات، فنشأ معهم رفيقاً حميماً، أو جزئاً غالياً من كيان يشعرهم بفخر الانتماء، وقوة جذور التاريخ الضاربة في كلّ منهم، وكأنه كان يوماً حاكماً لتلك الإمبراطورية الشاسعة التي امتدّت طولاً وعرضاً في آسيا وأوربا وأفريقيا..ووصلت بحر الصين، وحدود فرنسا..فينسى واقع الهزائم، والضعف، والفقر، وبلاوي الحكام، ومظاهر (الفسق والفجور) التي يقشعّر بدنه لها، ويعود القهقرى قروناً يستعيد ما يعتبره الأنموذج في العدل، والقوة، والشورى، وذلك بغض النظر عن مستوى تعليمه وثقافته .

 إنه، كغيره، يمارس عبادته بمواقيتها كواجب مقدس، لا تحول بينها وبينه أية ظروف..حتى المرض، والسفر، والانشغال بأعمال التجارة، مهما كانت ضرورية .

 تعلّم أبو محمود في مدرسة الحي الابتدائية، والإعدادية، وفي الصف الثامن حَرَن مقسماً أنه لن يعود للمدرسة، وأن حياته ومستقبله مع والده وتجارته، وليست في التعليم..

كان الوالد، أسعد الآغا، يتوسّم الذكاء في ولده، ويتمنى لو يكمل دراسته فيصبح طبيباً، والطبيب حلم جميع الآباء، فحاول نصحه بأن الشهادة الإعدادية ضرورية للمرحلة الثانوية، وأن (البكالوريا) شهادة معتبرة، تفتح له الطريق إلى الجامعة.. ومن يعلم : قد يصبح طبيباً مشهوراً..يفتخر به، ويترك التعلّق بتجارة الأغنام ومشتقاتها من اللبن والأجبان والقريشة والسمن وغيرها، بمتاعبها وروائحها، وقذارة البدو الذين يضطر لمصاحبتهم والمبيت عندهم، أحياناً، أو استضافتهم في بيته العربي الكبير الذي ينتهي بزريبة تعجّ بالأغنام، والحمير، والجمال، والكدش..

 كلّ أسعد الآغا، واضطر إلى ضرب ولده أكثر من مرة لإعادته إلى المدرسة، وقاطعه بأغلى ما يحب : منعه من مرافقته في رحلاته.. ولكن لا فائدة، ففاضل رأسه أقسى من حجر الصوان.. وقد صمم أن يهجر المدرسة، وأن يكون الساعد الأيمن لوالده..فيرث منه هذه المهنة ، العشق .

 وعندما شدد الوالد الخناق عليه، وحرمه من المصروف، ومن مصاحبته.. هرب فاضل دون أن يعلم أحداً.. وكانت البادية مقصده.. هناك أمضى أزيد من شهر ينخرط فيها مع شبان مثله، وأكبر، فيتعلّم عاداتهم، ولهجتهم، والكثير من (ثقافتهم)، وخبراتهم المكتسبة، المتراكمة في الرعي، وركوب الجمال، والخيل، ورعي الغنم، وحلبها، وقيادتها..ثم معرفة طريقة حساب أعمارها، والفروق بينها من حيث الحليب وكميته، والصوف، والإنجاب .. والحمل.. وأمور كثيرة كان شغفه بالتقاطها يجعله سريع الفهم، والحفظ، خاصة وأن انتقاله من مضرب إلى آخر، هروباً من والده الذي يبحث عنه لإعادته إلى المدرسة، زاده معرفة وخبرة، وعلاقات .

 والحق أن أسعد الآغا، وقد بردت فورة غضبه لعصيان ابنه أوامره ، ارتخى أمام تصميم ولده، وهو بالأصل لم يكن متحمساً كثيراً لإكمال دراسة فاضل، لأنه يريد مساعداً أميناً له، ووريثاً يكمل من بعده، ولن يجد أفصل من ولده، يعلّمه المهنة وأسرارها وعلاقاتها، ويدربه ليصبح مثله وأحسن .

 تماماً مثلما فعل والده معه حين درّبه على هذه المهنة حتى أتقنها، ثم استلم (الدفّة) من والده محمود الآغا( رحمه الله) ..

 لكن الحاجة أم فاضل ركبت رأسها، وألحّت على زوجها بالضغط، حتى الإجبار، على ولدها الأكبر بين الذكور الثلاث، كي يمنعه من تنفيذ رغبة تعتبرها صبيانية، ويعيده إلى المدرسة ولو على بطنه، لأسباب تعتقد أنها وجيهة كلها..

 ففاضل كبير صبيانها، جاءها بعد بنات ثلاث، ثم كرّت ست بنات، حتى جاءها الصبي الثاني، والثالث الذي انقطعت به خلفتها..

 البنات لا تعليم لهن أكثر من (فكّ الخط) ثم السترة التي لا تكون إلا في بيت زوج ابن حلال..(غالباً ما يكون من الأقارب، أو الحارة، وفي سن مبكّرة)..

وهو كبير الأولاد، وفوق ذلك : فاضل فطن، نبيه، وشاطر في المدرسة ، ويبيّض الوجه، لذلك حرام أن لا يكمل تعليمه .

 والسبب الثاني جد وجيه، ولعله أهم من الأول، فالحاجّة أم فاضل تعيش منافسة حادّة، وشاملة مع زوجات أخوة زوجها (السلايف) . فزوجة أحمد (الأخ التالي لأسعد، والذي يعمل في بيع الألبسة) تتباهى بتفوق أولادها : الذكور والإناث، وتتبجح أمامها ب:

((نظافة وترتيب بيتها وأولادها، وهندامهم، ولباسهم الحديث، المكوي، وحديثهم الناعم، الطري، الذي يخلو من الشتائم، ولغة الحمير.

إنهم ليسوا ((مثل بعض الجماعة..وسخين، مهرمشين، لا يعرفون غير لبس الجلابيات المشققة، المتسخة، والتي ترى فيها كل بقعة أكبر من أختها، حتى لا يفرّقهم من يراهم عن الطرش، مثلهم مثل الغنم والجمال والحمير.. حتى صاروا منهم، وجرّوا أولادهم معهم ..ويا خوفي من أن يؤثروا على الأولاد.. خاصة ذلك الفاضل المتلوي، العنيد، الذي يبدو أن أمه توحّمت على واحد من أولئك البدو الذين ينامون عندهم.. وربما على أكثر.. من يدري ؟؟؟...)) .....

 كانت سلفتها(ناجية) شديدة التفاخر بنفسها، وتعليمها، فقد وصلت الصف الرابع :

(( وليست مثل بعض الجماعة الذين لا يفقهون.. خرسان، طرشان، وربي كما خلقتني ..)).

وللمناسبة : فناجية لا تسمّي الآخرين بأسمائهم، إذ كثيراً ما تستخدم تعبيرها الشائع( مثل بعض الجماعة) الذي تعني به الحاجّة أم فاضل وبيتها..أو عائلة سلفتها الأخرى، أو أي آخر تريد تناوله..

فيغلي الدم في عروق الحاجة، ويرتفع ضغطها فتخرج عن مألوفها أحياناً، وهي تجد نفسها مضطّرة لرشقها بكلمات قوية( من نفس المستوى)، كأن تقول لها :

(( الجاجة تنكش وسخها وتأكله وهي مزهوة)).

أو : ((الحمار ينهق ويعتقد أنه فهيم وهو يمعني))..

 وربما نثرت كلاماً لا معنى له، أو سمعته من أمها، وجدتها فنست بعضه، وهي تجهد نفسها كي يكون موزوناً، لأن الكلام الموزون ذو معنى أكبر، ويدلّ على مستوى من الثقافة، والخبرة في الحياة، كأن تصفعها بالقول:

 (( الطوايش ولا كلام الهوايش))،

 أو ((البوم كله سموم)).

 وقد تتحداها بجمل قوية ((من ينظر لفوقه تنقرف رقبته))،

 و(( الدون دون لو صار ذو شؤون))،

 و(( الحبّة حبّة لو ظنّت نفسها قبّة))،

 وأشياء أخرى من هذا القبيل الذي تريد أن تشفي غليلها، لكن، مع ذلك، ورغم أنها تعتقد أنها ردّت الصاع صاعات، إلا أن قلبها محروق لأن ولدها يخرج عن طوعها، ويصرّ على ترك المدرسة، ويشمّت بها خلق الله، خاصة تلك المنفوشة، المقفوشة ناجية .

 إنها تريد أن تثبت لها أن فاضل، ورغم عشقه لحياة البدو، وتأثره الواضح بهم، هو أذكى من صبيانها الستة، وبناتها الثلاث، وأنه سيصبح طبيباً مشهوراً تتحدث عنه العائلة، والركبان..وأن المهم هو باطن الإنسان، لا ظاهره (( من برّا رخام، ومن جوّا سخام)) ..

 وسلفتها الثانية، زوجة مصطفى، الأصغر من زوجها بخمسة أعوام، دائمة التعيير لهم بروائح الدواب التي تفوح عليهم، ومن بيتهم.. وكأنها جاءت من سويسرا(هكذا تقول الحاجّة أم فاضل)، وليست ابنة القصاب أبو حمدو..المختص بذبح الجمال، وأكل (اللايشة) ووسخ الذبيحة، والذي لم يشاهد مرة إلا والدماء والأقذار تملأ ثيابه بقعاً فوق بقع، والشحيح لا يسخى أن يشتري مئزراً، أو جلابية نظيفة..

هذا عدا عن أشياء كثيرة يتداولها الناس عن غشه.. وما يحكى أنه مستعد لذبح حمير وتقديمها على أنها لحم جمل أو ضأن.

 إنه يفعلها حسب تقدير الحاجّة، ولذلك لا يحق لتلك المتعالية أن تشوف نفسها على بيت الأخ الأكبر.. الذي كان له الفضل في تعليم أخيه، وإيصاله إلى (رتبة) أستاذ ثانوي، والذي ما يزال يطلب بين الحين والآخر مساعدة أبو فاضل، ويبوس الأرض كلما انزنق لينجده، بينما تضع زوجته أنفها في السماء.. يا سبحان الله ..

 وهناك سبب آخر ملتبس على الحاجة أم فاضل، ويعود، ضمنياً، إلى نظرتها لهذه المهنة التي تكاد تخجل من الحديث عنها خاصة مع بعض الأوساط الغريبة، عندما تذهب إلى حمام السوق وتلتقي بنساء كثيرات السؤال والتفاخر والثرثرة .

صحيح أنها مهنة العائلة التي ورثها أبو فاضل عن والده فاختصّ بها وحده حين رفض أخوته العمل معه بحجج كثيرة، كامتناعهم عن العمل تحت إمرته، أو لأنهم كانوا يحبون مهناً أخرى(أقل تعباً، وأكثر نظافة)، فأعطاهم مقابل حصتهم مبالغ مالية تصرّفوا بها، ففتح أحمد محلاً لبيع الثياب، واشترى مصطفى قطعة أرض في مكان بعيد، يقول أنه سيبني بها بيتاً وينتقل من (هذه الحارة اللعينة) عندما يتيسّر الحال .

 ووزع على أخواته البنات نصيباً مجزياً، خلافا للعادة الشائعة بعدم توريث البنات المتزوجات، أو الاكتفاء بمنحهن مبلغاً، هكذا( على البيعة) كنوع من ترضية، أو رفع العتب ..

 وتعرف الحاجّة أنها مهنة مربحة، (تقصّ ذهباً) خاصة للشاطر الذي يفهمها.. إلا أنها مرهقة جداً، وتضطر العائلة برمتها للانخراط فيها، خاصة : غسيل الصوف، أو تنقيته، وتنظيف القريش، وصنعه أحياناً، والجبن، والقشدة، واللبن، وتجفيفه ليصبح (هقطاً)، أو لبنة، وترويب وتذويب السمن.. ثم تعبئته في التنك، والحاصل..

 والأقسى، والأمرّ رعاية الدواب وإطعامها، والعناية بها، وتنظيف الإسطبل، والإشراف على عمل العمال في غياب أبو فاضل الدائم إلى البادية، أو إلى الأسواق لبيع الدواب، والمنتجات.. وأمور كثيرة تضطرها وعديد بناتها إلى الانغماس ومساعدة بعض العاملين في شغل لا ينتهي، وقد يأخذ وقتاً طويلاً من الليل. هذا عدا عن الروائح القوية المنبعثة، والتي تملأ الدار، وتنتقل (فعلاً) إلى دور الأخوة والجيران..وأكوام الزبل، والنفايات.. وأغراض الدواب ولوازمهم المرمية في كافة أنحاء الإسطبل، وحول الزريبة، ومناطق أخرى من البيت الكبير، واستقبال البدو بروائحهم، وعاداتهم، وإطعامهم .. خاصة عند مبيت بعضهم في (المضافة) الموجودة على كتف الزريبة .

 أكثر من هذا، فمنزلة من يتعاطاها ليست كبيرة بين التجار، وسمعتها متدنيّة لارتباطها بالغنم والحيوانات، والبدو، وروائح السمن، والجلود، والصوف، والبعر، والزريبة، وهيئة أبو فاضل المزرية، أغلب الأحيان، والتي يظنّ الناظر إليه أنه عامل فقير، أو زبّال ...ولا مؤاخذة ..

 والأهم : أنها رأت الدنيا، فقد حجّت مرتين، وهناك شاهدت أشياء مرتّبة، وبشراً مهندمين نظيفين، يتكلمون لغة رقيقة، وأولاداً متعلمين ينقّط الذكاء والوقار من جباههم وأفواههم، فتمنّت أن تكون، وبيتها، وأولادها، خاصة فاضل ذكرها الأكبر.. مثلهم، بل وأحسن، فيترك هذه المهنة، ولذلك بذلت كل ما تقدّر لثنيه، وإقناعه بالعودة إلى المدرسة.. ولا فائدة..

 فاضل يعاند، ويحاجج : إنه لا يحب الدراسة، ولا يرى فائدة من الشهادة إلا تضييع الوقت، لأنه لن يكمل مهما كان، ولن يصبح طبيباً، فهو يهوى شيئاً آخر.

إن روحه معلّقة بعالم شغل والده : تجارة الصوف والأغنام ومشتقاتها، ورحلاته المتكررة إلى مضارب البدو، وانشداده إلى تلك الحياة.. بكل مداها المفتوح، وعلاقاتها القائمة على الكرم، والترحال، ورواية قصص البطولة، وحكايا الركبان، وكأنه في ألف ليلة وليلة ..

 فاضل، ومنذ طفولته، تعلّق قلبه بالبادية السورية حيث الاتساع، والصفاء، والنقاء، وتلك الطبيعة الآسرة التي تدفع ولداً مثله إلى محاولة نظم الشعر، وحفظ كثير الأغاني والمواويل، والقصائد البدوية التي تروي قصصاً واقعية خلّدها الشعّار وغنوها على الرباب، فحَدَت بها الركبان.. وفاضل يقلّدهم، ويلبس لباسهم، فيزهو فخراً وخيلاء وهو يلف الشملة على رأسه، أو يضع عقالاً رفيعاً خلاف العقال الغليظ المنتشر في حارتهم، وتلك الجلابية الفضفاضة، وفوقها مزوية رقيقة، أو (جدشية) مطرّزة بألوان زاهية متقنة، والفروة الخفيفة التي يتباهى البدوي بها كلما كانت أقلّ وزناً لأنها تكون مصنوعة من جلد خراف صغار تدلل على مكانة صاحبها.

وكان أكثر ما يشدّه امتطاء ظهر جمل، خاصة عندما ينخّ وفقاً لتلك الأوامر الصادرة له، ثم ينهض بحركة عجائبية ساحرة، تشعر معها وكأنك تطير عالياً، أو ركوب حصان وتعلّم فنون الجري عليه، ودخول سباقات تنافسية مع أقرانه، والأكبر منه الذين اعتادوا امتطاءه دون سرج، فتراهم وكأنهم معلقين في الهواء وهم يطيرون فوقه، وأحياناً كان ينفرد ليجول بين تلك الربوع التي لم يلوثها الإنسان كثيراً، فحافظت على نقاوة تجعلك تشمّ عن مسافات رائحة شجر البطم، والسنديان، والعرعر والشيح..فينتشي وهو يملأ رئتيه بهواء نظيف، ويسهر الليل مع أقرانه حول نار حطبها من ذلك الشجر الآسر .. فيرتحل بأحلامه بعيداً، بعيداً يعيد أزماناً غابرة، لفرسان أبطال على صهوات جياد عربية أصيلة يقطعون المسافات فيسابقون الريح.. وها هو يرى سيوفهم مشّرعة تقاتل الكفر، وجيوش الطغيان فينتصر الإيمان.. وإذ بصرخات الله أكبر تخرج من أعماقه، فيلتفت الصحاب حولهم.. وعندما لا يشاهدون أحداً يبرمون رؤوسهم، وقد يضحكون بطيبة، أو سذاجة لابن المدينة هذا الممتلئ تخيّلات، والذي يروي لهم قصصاً لم يسمعوا بعمرهم شيئاً عنها، فيطالبونه المزيد.. والمزيد يحتاج إلى مخيلة خصبة في التأليف والنسج.. وفاضل جاهز لخلط ما سمع، مع شيء من تصورات.. وإذ به حكواتيا من طرز فريد، وإذ بالأفواه مفتوحة تغالب النعاس، والتثاؤب، وإذ بلهجة المدينة تختلط بلهجة بدوية محببة..فينتشي...

 كاد فاضل أن يصير واحداً من هؤلاء، فاختلط بالأطفال والفتيان، والبنات . تعلّم عاداتهم، وطريقة كلامهم، وأكلهم، ورعيهم للغنم، وركوب الجمل وكأنك سابح في الفضاء، والحصان، والحمار، والجري خلف، وأمام الكلاب، ومع (المرياع) قائد قطيع الغنم.. بجلال قدره، وقدراته القيادية التي نادراً ما تتوه، أو تحيد عن الطريق المرسوم، وجمال صوفه، وأجراسه التي ترنّ موسيقى حلوة تجعلك تنصت رغماً عنك، فتتشابك مع ذلك السكون المعشوشب بصفاء، وتماوج غيوم الربيع..

 ولاندماجه الكلي يمكن القول أنه يصعب على الغريب أن يميّزه بدقة عن بقية أولاد البدو المتحلّقين حول النار، أو المتسامرين في أمر، أو المتسابقين جرياً، وفوق ظهور الحمير، والجمال والخيل، ما لم يقترب منه، ويكتشف أن لونه مختلف (أقرب إلى الشقار، ونعومة في الوجه، واليدين، تقريباً)، وأن لهجته ليست متقنة تماماً، إذ ما زالت تختلط مع كلمات مدينية خاصة حرف القاف الذي يخرج أحيانا (آفاً، أو كافا، أو جافاً مشددة، أو كافاً مشددة مضغومة) فتفضح صاحبها معلنة أنه ليس ابناً أصيلاً للبادية..وإنما زائر معجب، وأن عليه التدّرب، والمزيد لإتقانها .

 ****

 ها هو أبو محمود، المغترب قسراً، المثقل بحمله : عائلة من اثني عشر، بل أربعة عشرة (هو وزوجته وعشرة أولاد، وابن أخيه، وابن أخته).. يعود إلى ذكرياته، كأنه لا يملك ما هو أعزّ منها..

فالغربة كربة، وصعبة، تضيّع الأصول والفصول، كما يقول .

والغربة قنوط، وانتظار، واشتلاع عن الأهل، والتراب، والصحاب، والاعتياد، خاصة لغربة إجبارية من نوع خاص، يكتنفها القلق، والخوف، والحرج، والمجهول فلا يبدو أفقها واضحاً أو محدداً بزمن .. كأنها نوع من أشغال شاقّة مؤبّدة، لكن ضمن سجن كبير مفتوح..

 آه يا أبا فاضل الراحل إلى النجاة، الباحث عن الحرية في دنيا العرب المقفلة.. ها أنت.. والأعوام.. ولائحة الانتظار.. غريب مسجّل في دفاتر القادمين كواحد من اللاجئين (السياسيين) الذين قيّدوا هكذا دون أن يكون سياسياً عن حق وحقيق.. تخرّمشك أجهزة الأمن الباحثة عن أخبار ومتعاونين، فتنتفض البادية، والحارة الشعبية الأصيلة فيك..

تلمّ أطراف المزوية. تنكّس العقال..وتغرق في بحر من عرق بارد داخلي يُحرج، فيضطّرك إلى مسحه مراراً بكمّك، بينما تتلعثم الكلمات في الجوف.. أنت المذعور، أو النافر كلّ عمرك من المخابرات: أيّاً كانوا ووجدوا.. فلا تملك أجوبة واضحة، وتلوذ بالصمت.. إذ ليس لمثلك أن يعلن رفضاً صريحاً لشرطي، أو أي ممثل للحكومة .. فكيف وهم رجال أمن(مخابرات عن حق وحقيق) يرجّفون أصحاب الشوارب، ويحملون هيبة تضخّها نظراتهم، ونظاراتهم السوداء، ومسدساتهم الكبيرة، وكلماتهم القاطعة، الآمرة ؟؟! .

 والأمرّ أنهم أجهزة الدولة التي تأويك وتحميك، وفي بلد أنت ضيف فيه، وعلى الضيف أن يكون مهذباً، ومتعاوناً، وصديقا، ومسالماً، وعاقلاً لا يهشّ ولا ينشّ، ولا يأتي بسيرة عن سياسة البلد وما يجري فيه.. سوى الحمد والشكر والمدح والتبجيل.. وقد قال لك الأخوة مرات ومرات : كن حذراً، كتوماً، ولا تتصرف من عندك.. وإذا ما سئلت..قل لهم : أن الأخوة مسؤولون عني، وأن لا علاقة لي بأي موضوع.. لأني مجرد عضو في جماعة كبيرة..

فكيف يتصرف وهم يقصدونه بالذات؟، ويطلبون منه معلومات عن البادية ومسالكها، وأفضل دروبها السرّية للوصول إلى الحواضر والمدن، ومعرفته بزعماء العشائر، ومواقفهم من النظام هناك، وقابلياتهم للتعاون، أو المساعدة في أداء بعض الخدمات.. وشؤون مدينته التي ذبحت، وماذا يعرف عن المجزرة وحيثياتها، وعدد الضحايا والأسماء، والأحياء، والقوى التي ينتمون إليها.. وماذا بقي فيها؟.. وهل يمكن إيجاد من يمكن الوثوق بهم، وشكل الوصول إليهم.. و..

عشرات الأسئلة الفرعية التي تدور حول حياته، ومهنته، والبادية ومعارفه، ومدينته الحبيبة، وناسه، ومعارفه.. بما يشيّب شعر الرأس، ويجعل واحداً مثله يبلع ريقه ألف مرّة فلا يجد سوى جفاف الحلق، ويباس اللسان، وتلجلج الكلمات الخائفة، الحائرة..هو الذي لم يدخل السياسة إلا من أطرافها، بل لعله لم يلج بابها فوقف عند العتبة..!!! .

 ****

 الحق أن فاضل، أو أبو محمود، كما درجوا على مناداته، لا يعرف إذا ما كان عضواً في الجماعة، أو مجرد صديق، أو متعاطف..أو قريب، لأن ما فعله لا يتعدى دفع بعض المبالغ لأناس يعرفهم في الحارة.. كانوا يقولون أنهم جمعية خيرية، وأنهم يجمعون المال للمحتاجين، والفقراء، فكان يعطي بسخاء، ودون أن يأخذ وصلاً، أو يسأل عن مآل تلك المبالغ، ولمن تذهب..

 ظلّ هكذا بضعة سنوات.. يدفع ولا يسأل، وهؤلاء يشيدون بمناقبه وشجاعته، وحسن إيمانه، وتقواه، وهو يجاملهم بكلمات مشابهة دون أن يعرف إذا كانوا مجرد وسائل للبر والإحسان، أم أنهم أكثر..

 مرة واحدة، وأثناء زيارة صديقه أبو محمد، شاهر الجدعان، ألمح له بأشياء شبه سرّية، حيث حدّثه عن المظالم التي تقع على المسلمين من قبل :

 ((نظام لا يؤمن بالدين، ويقلد الغرب، ويستورد نظرياته، وأنه يلاحق المؤمنين، ويراقب المصلين، ويتدخّل في خطب الأئمة وفتاويهم، وحركتهم، ويمنع الذي لا يعجبه، حتى وإن كان من صلب العقيدة، أو يخصّ أمراً شرعياً))...

 وأن هؤلاء الحكام

((كفرة، ملاحدة، علمانيون، اشتراكيون، يريدون جلب ماركس اليهودي وتعاليمه لنصبح مثل روسيا الكافرة..)).

 وأشياء كثيرة عميقة لم يجهد نفسه بالاستفسار عن جوهرها، مكتفياً بهزّ الرأس، وكأنه يعلن قبوله بما يقال، وتفهمه العميق لكل كلمة ومصطلح، في حين كان يرى أن الأمر لا يستحق التعب، لأن الذي يهمه وجود حكم إسلامي يحكم بالشريعة، ويعمل لإعادة الخلافة. وطالما أن الحكم القائم ليس كذلك، فإنه ضده، ويكرهه، وهو مستعد للقيام بما يمليه عليه دينه .

 أحاديث أبو محمد توسّعت، وتوغلت، فلم يعد يكتفي بتناول طبيعة النظام وحسب، بل راح يمدّ معه الخيوط لتعريفه بما يتعرّض له الأخوة من مراقبة ومطاردة واعتقالات، وكيف يسامون العذاب والموت على يد الطغاة والجلادين.. فقط لأنهم يحرصون على أداء فروضهم، ويدعون الناس إلى دين الله، وإلى العمل بهديه..

 وقال له كلمات غامضة، عامّة عن ثقة الأخوة به، وحبهم الكبير له، وإشادتهم بتقواه ومسلكه وكرمه، وحرصه على تقديم نصيبه في مساعدة الضعفاء والمحتاجين، وتحسين أوضاع المسلمين، ولذلك هم يحرصون على العلاقة المميزة معه، خاصة وأنهم قد يحتاجونه في بعض المساعدات..

 لم يفكّر فاضل كثيراً بما يعنيه أبو محمد، أو ما يغمز إليه، لأن الذي يهمه هو تحسين أوضاع المسلمين على يد رجال مؤمنين يقيمون الحكم العادل، ويوحدون الكلمة .

ورغم أنه يتهيّب السلطة ورموزها، ويتحاشى أي احتكاك بها، بما في ذلك الذهاب للمخفر، أو الاستجابة لبعض الاستدعاءات الضرورية التي كان يتبرّم منها، ويحسب لها ألف حساب..إلا أنه أعلن استعداده لأية خدمة يوجبها الدين، والأخوة .. لأن المسلم أخ المسلم...في السرّاء والضرّاء ..

 فهم فاضل أن المساعدة المطلوبة قد تشتمل نقل بعض الأشخاص إلى البادية، واستخدام مهاراته فيها، وعلاقاته الواسعة بقبائل البدو (لحماية) بعض الأخوة، وتأمين إيصالهم إلى العراق.. فكان يقوم بهذه المهام بكل حماس وجدية ..

 وحين تطوّرت الأمور إلى استقبال آخرين من هناك، وتأمين مكان لإقامتهم أياماً، وإيصالهم إلى بعض النقاط المحددة في مدينته.. لم يتراجع، وإن أصيب بنوع من البلبلة، والخوف، لأنه لا يفهم الغاية من ذلك، ولا القادم من التطورات، خاصة وأنه لاحظ، أكثر من مرّة، وجود بعض أنواع الأسلحة مع هؤلاء القادمين، وبكميات تتجاوز الاستخدام الشخصي، وشعر أنه شيئاً فشيئاً ينغمس في أمر لا يدري كنهه بالضبط، وإن كان يحمل كل الأخطار، خصوصاً وأن الأخبار تتحدّث عن مصادمات بين أجهزة السلطة والإخوان المسلمين، واغتيالات، وتصفيات، واعتقالات، واعترافات يعرضها التلفزيون لشباب يقال أنهم قاموا بأعمال عنيفة، واغتالوا، وفجّروا، وقتلوا...

وإذ بالكوابيس تغزوه حاملة معها آلاف الصور المرعبة عن مصير أسود ينتظره، وعن جهنم الموت البطيء إذا ما وقع بين أيديهم، أو اعترف أحدهم عليه بأنه كان ينقل بشراً إلى العراق، ويأوي أناساً مجهولين لا يعرفهم، ولا يعرف أسماءهم التي ربما تكون غير حقيقية.. يحملون أسلحة شاهدها بأمّ عينه.. وسأل، وما عرف جواباً ..