من الطارق
حسين راتب أبو نبعة
جامعة الملك عبد العزيز
كلية المعلمين بمحافظة جدة
كانت غارقة في نوم عميق ، فجأة انتفضت مفزوعة إذ أيقظها سماع أصوات متداخلة عالية مصدرها حديقة المنزل . لم تكن قادرة على تمييزها بدقة فقد تهيأ لها أنها مزيج من عواء كلاب و مواء قطط و صياح ديكة تختنق في القن الموجود في الزاوية الشمالية من المنزل. الظلام دامس في الهزيع الأخير من الليل..تحاول أم صبري أن تنظر عبر النافذة كي تحدد الأشياء و تتبين الأمور حتى تطمئن قليلاً على مصير دجاجاتها ، غير أن ظلمة الليل الحالكة و شبح الخوف أجهضا المحاولة و عادت إلى سريرها بعد أن هرب النوم من جفونها ، عادت تحتضن طفليها الصغيرين و تضمهما بين يديها المرتعشتين.
كانت قبل أن تأوي إلى فراشها تقوم ببعض الأشياء التي أصبحت طقوساً يومية معتادة ، إذ أنها اعتادت الوقوف أمام القن و ترفع يديها إلى السماء متضرعة إلى الله أن يحفظ لها دجاجاتها من كل سوء .كان لسانها يلهج بالدعاء كلما أحست بخطب ما أو انتابها شعور غريب، تختتم جولتها السريعة في الحديقة قائلة " استودعكن الله " ثم يخيم صمت على المكان .
مع انبلاج الفجر هرعت "أم صبري"للحديقة تتفقد القن و تطمئن على دجاجاتها .لم تجد إلا بقايا ريش متطاير و بقايا عرف و أجنحة و أمعاء بعض الديكة و الدجاجات التي نفقت اثر هجوم ليلي شرس. أثارت نتائج الهجوم لواعج كثيرة في نفسها ، فقد ذهبت جهودها هباءً فقد كانت تكسب قليلاً من بيع البيض البلدي. نكأت الحادثة جراحاً لم تندمل بعد ، إذ أنها كانت قد فقدت زوجها قبل عام في حادث سير مفجع و هو في ريعان شبابه....نظرت في المرآة فرأت بقايا حزينة لامرأة مفجوعة...(...لو كان بيننا لأنقض على المهاجمين كالصقر الجارح و استعاد بعض دجاجاتي ! همست بصوت خافت و هي تتقلب على سرير بارد .)، غير أن مصابها افقدها السيطرة على دموعها فسقطت عبرات ساخنة على وجنتيها ، فأحس أكبر الولدين بشيء ما فلم يجد مفراً من السؤال: لماذا تبكين يا أماه ؟ تلعثمت الكلمات و تشابكت فلم يفهم الطفل شيئاً و تظاهر بالفهم وهز رأسه ببراءة و نام ثانية. في الليلة التالية اختلطت أحلامها بكوابيس أرقتها فظلت تتقلب في فراشها على جنبيها و كأنها تعاني من مغص كلوي حاد ، تنهض من جديد وسط حالة ما بين الذهول و الخوف و الرجاء ، و تنظر من جديد ولديها بحدب كأنها تخشى عليهم من غدر الزمان و تقلباته أو خطر داهم وشيك.
مر أسبوعان على الحادثة ، و في صبيحة أحد الأيام سمعت طرقاً مزعجاً على الباب
- خير ، اللهم خير ، من الطارق في هذه الساعة؟ سألت مستهجنة، و لماذا لم يستخدم الطارق جرس الباب ..على الأقل كنا قد سمعنا رنة ناعمة " صوت الكناري " تريح النفس بدل هذا الهرج.....، ثم هرولت إلى الباب الرئيسي فنظرت عبر عدسة صغيرة لترى عجوزاً في السبعين من عمرها تتوكأ على عصا خشبية قديمة مهترئة، يختفي وجهها الصغير خلف نظارتين سميكتين ، تبدو كمتسولة غدر بها الزمان و عضها الفقر ، و تحمل في يمناها محفظة جلدية صغيرة....ترددت أم صبري قليلاً قبل أن تفتح الباب ثم تأملت ثانية في العجوز و أدركت أنها لا يمكن أن تكون متسولة فثيابها نظيفة و ملامحها فيها كبرياء!
رحبت بالعجوز وأجلستها على أريكة وقامت بواجب الضيافة. كانت العجوز تتأمل في ملامح أم صبري و تطرح أسئلة غريبة و تسأل عن والديها وأين يسكنون ..و أخيراً قالت " يا ابنتي سأفاتحك بالموضوع مباشرة فأنا لا أعرف اللف و الدوران - أريد أن أخطبك لأبني الأوسط و أنا أسمع كثراً عن خصالك الحميدة و أصلك الطيب....عنده دخل جيد و هو في الثلاثين من عمره ، وهو يعرف عن ظروفك - ها......ماذا قلت ؟"
يمر شريط الأحداث أمام أم صبري ، فيه كثير من السواد و غيوم ركامية تبعث على القلق ، وقليل من الفرح وتتذكر الهجوم التي تعرضت لها دجاجاتها و تشعر بحاجة ماسة للأمان و الدفء أكثر من ذي قبل و تحس بارتعاشة خفيفة . تحركت العجوز قليلاً ثم ضربت بعصاها الأرض ضربة خفيفة قائلة: ماذا أقول لأبني يا أم ..........!؟هذا هو رقم تلفون أبي يمكنك الاتصال بعد يومين ريثما أتحدث معه بالأمر . همت العجوز بالمغادرة و قد علت على وجهها ابتسامة على وجه أم صبري علامات دهشة و ترقب .