كابوس
عبد الواحد الزفري*
رأيت في ما لم ير نائم في منامه: أني في بيداء، والشمس لا أحد تحتها سوى رأسي تصب فيه جام حرارتها، وكنت حافي القدمين أمشي على رمال متحركة تبلعني فأحس باختناق قاتل، وفي الأخير تلفظني، للعواصف ترجمني رمالها وبسرعة الرمش تغير معالم تلك الصحراء، فأزداد توهانا أكثر.
- كتبان كانت هنا أمام ناظري فوليتها خلف ظهري - ورمت السراب، نحوه أجر الخطى وأمني النفس بتجرع مائه الواهم.
وفيما أنا على حالي، إذ لاحت لي من وراء السراب امرأة عجباء لم تكن كباقي النساء: عيناها (سبحان المعبود) تذكي في النفس نار الجنون، على خدها خال: خاتم الجمال المكنون، أسود تحت زرقة العيون. ثغرها يغري الزهاد إذا تبسم، ويسبي العقول إذا ترنم. شعرها الذهبي يجعل الحرير يقر بأنه مفرط في الخشونة، رموش عينيها سوط الجلاد وكنت (في كابوسي) عبدها الوحيد في تلك البلاد، من بعيد لفحتني حرارة جسدها الهفهاف، وحين دنت مني صارت جمرة حطت في هشيم العيون فشبت نار في سائر الأوصال. تمايلت الحسناء، تدللت، مدت لي كفها وشوشتني:
- أنا في انتظارك، سلم.
انتابني هذيان - كما يحدث لي وقت نشوة - ولم أتذكر سوى بعض ما قلت لها وأنا كالكلب ألعق باطن كفيها:
- سلام على أجمل خلق السماء، عطشان أنا فهل أنت سراب؟ أم ماء؟.
ضحكت ولما بانت جواهر أسنانها، أدركت أنه من الخطأ تسمية ما بفمي "أسنان"، بلطف رفعتني من على قدميها، أركبتني براقها الأبيض الجامح، و طارت بي في رحاب الغيوم الباردة، حط بنا البراق بروضة فيحاء لا يحدها بصر، بها خضرة يانعة وبياضات كثيرة متفرقة هنا وهناك كما آكام الثلج. بنعومة صفقت فانفتح أديم الأرض، أدخلتني غرفة وقبلها حماما لم يكن فيه أحد سوانا، على أرضيته نصبت مصطبة خشبية، مددتني فوقها بعدما جردتني من أثوابي في صمت رهيب، وبدأت تغمر جسدي بماء فاتر، وتدلك دون حياء جسدي العاري، بما فيه تلك المناطق التي لا أخجل من ذكرها، كل ذلك بنعومة ريش نعام كفيها، حتى كدت أن أنام في منامي، لكني خفت ألا أستيقظ أبدا. بعد غفوة قصيرة أحسست بنهديها لما كانت تلفني بثوب ناصع البياض، فنسيت أني كنت ظمآن، بل اكتشفت أن بدني يرشح بأريج الزهر وماء الورد. كل الظروف كانت مهيأة للقيام بما قد يقوم به رجل قادم من الصحراء مع امرأة هيفاء، بيضاء، وفوق كل هذا وذاك كانت شقراء، لما دنوت منها استحضرت تفاصيل أشرطتي المحظورة - على أقل من كان دون الثامنة عشر- وكذا حماقاتي وشبق حياتي كلها في وهلة أو نصف وهلة. لمعانقتي فتحت ذراعيها الرخاميتين وأرخت شعرها الطويل على سائر بدني، فانتابتني قشعريرة بحرارة القطب الشمالي أو أكثر، على كتاب ضخم (كما كتاب العدول) ربتت بكفها وقالت بغنج ودلال ما ورد على بال الدلوعة " هيفاء ":
- ليس قبل أن يزفوك إلي.
لم أدر إلا وأنا محمول على هودج كبير لا زالت به رائحة الخشب الطري ، وبدأت أسمع مقاطع "مونوطونية" ينشدها الرجال في خشوع لكني لم أشاهد وجوههم: لأن رؤوسهم كانت تحت الهودج تميله يمنة و يسرة، و أنا من فوقهم أتبختر في صمت رهيب، ولما أوصلوني غرفة "الدخلة"، أوصدوا بابها الخشبي، وانصرفوا احتراما وإكبارا لحميمية المقام.
بلطف اقتربت من عروسي الحسناء - مقدما فحولتي قبل كل شيء - وقبل أن أدخل بها، ولكي أرفع كلفة الخجل عنها وعني، بشوق كبير قلت لها:
- بالله عليك، قل لي، من أنت من بين مخلوقات الرحمان الرحيم؟.
ضمتني بعنف ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت تهمس في أذني:
- أنا الموت ... أنا الموت...أنا الـــــــ...مــــــ...و...ت.
*
قاص من مدينة القصر الكبير المغربية.