رائحة الطين

هدى الرواشدة

[email protected]

كالعادة ، لم أدخل ذلك الحي ، إلا وبلل قدمي جريان الماء المتدفق من باب أحد المنازل ، ثم تظهر هي ذاتها ، ممسكة بخرطوم ماء بيد و بمقشة باليد ألأخرى ، تتحكم في سير الماء كما لو كانت تقود مركبة بمهارة فائقة ، فهي وظيفة التصقت بها منذ الصغر ، بل و ربما تكون قد خلقت من أجلها . كنت أراقبها و أنا مقبلة وأحاول أن أميز من يبدأ أولا ، جريان الماء المتدفق كما لو كان من أناملها أم حركة المقشة ؟! أم أنهما يبدآن معا ؟! لكن سرعتها الفائقة حالت دون اقتناصي لتلك اللحظة .

 لم تلحظ دنوي منها فلقد كانت عيناها تحملقان في الإسفلت كما لو كانت تبحث عن شيء ثمين فقدته ، وأكاد أقسم أنها أصبحت تميز نتوءات ذلك الشارع كافة ، بل وتربطها بها علاقة حميمة منذ زمن .

 لم أشأ المرور من جانبها دون أن أسمع صوتها ، فطرقت عليها السلام لكنها لم تجب، فقد كانت جميع حواسها منصبة على تلك النتوءات كما لو كانت تحاورها ، مما جعلني أطبطب على كتفها وأطرق عليها السلام مرة أخرى . رفعت بصرها فبدت عيناها متعبتين ، و حين ميزتني انتصبت احتراما ، فبدا جسدها مقوسا ، و ارتسمت ابتسامة عريضة شققت شفتيها الجافتين و ردت علي التحية .

سألتها:

 - ألم تملي هذه العادة يا وعد ؟!

أجابتني :

 - كما قلت إنها عادة ، و العادة من الصعب الإقلاع عنها .

 قلت لها:

 - لكنها شاقة!

أجابتني :

-         وما أحب فيها هو هذا الشقاء . تفضلي .

 شعرت أنها أرادت أن تنهي الحديث معي ، فخجلت من نفسي ، شكرتها ثم سرت ربما عشرة خطى ، و دخلت المنزل الذي أقصده ، وأنا في حيرة من أمري ، هل أدخل كأحد أفراد ذلك المنزل المقربين لي جدا و آخذ العزاء كواحدة مثلهم ؟! أم أن أعزي عليهم كغريبة لانقطاعي إلا في المناسبات الحزينة جدا ؟!

 قبل أن أصعد سلم المنزل لأجلس على أحد أطقم الكنب الفاخرة ، قادتني قدماي إلى ذلك الدهليز ، الذي يفضي إلى باحة ، يضرب فيها أساس منزل حديث على جذور منزل قديم ، لم يبق منه إلا غرفة من الحجارة كانت الأكبر ، يشد من تماسكها طين مجبول بالقش، تفوح منه رائحة الذكريات . لم يتغير شيء على الغرفة ، جدرانها متماسكة كطاعنة في السن لم يزدها كبرها إلا تشبثا بالحياة ، وهذا هو بابها ذاته لكنه مقفول بعدما كان مشرعا للجميع.

 شجرة التفاح الكبيرة ، كانت هنا يوما ، شامخة ، تلامس فروعها أسقف الغرف ، تنشر ظلالها على الباحة ، أين اختفت ؟! حاولت تذكر مضرب ساقها ، فلم أفلح . لقد نجحوا في بتره ، لكن هيهات لهم أن يستأصلوا جذورها الضاربة في أرض الحي بأكمله . إنها تحت أقدامهم تشهد على خطواتهم ، تفتخر ببعضهم ، و تشفق على بعضهم حينا ، و تهزأ من بعضهم حينا آخر.

أسلمت نفسي لرائحة الطين ، و هيئت لها أن تنفذ إلى داخل مسامات ذاكرتي ، فتقذفني طفلة كان لي فيها أنفاس ، و كان لأناملي بصمات على جدرانها و لأقدامي آثار وقع على أرضها ، و ها أنا أكاد أشتم رائحة زيت الزيتون المسكوب في طبق ألألمنيوم الصغير ، نعكر صفاءه بغمس كسر خبز "الطابون " فيه ، هنا كان للنجوم تلألؤا آخر ، كان بإمكاني أن أستلق ليلا أناجيها ، أحدثها عن أحلامي ، فهي خير شاهد على نجاحي أو على إخفاقي ، لطول بقائها ولسرعة زوالي . هي كانت قبلي وستظل بعدي و ستحكي للناس حكايتي كما روت لي حكايات أجدادي .

 لملمت شريط ذكرياتي ، وهدأت من روع جموح خيالي و استدرتُ و مضيتُ بجسدي المثقل بالحسرات ، تاركةً روحي تسبح في فضاء الباحة .

 صعدت السلم ودخلت البيت الذي أقصده ، فبدا غريب لا يمت لتلك الباحة بصلة ، كما لو أنه يبعد عنها أميالا . عزيت و أخذت العزاء في آن واحد ، وما كدت أن أجلس على أحد المقاعد بجانب إحدى قريباتي حتى التقت عيناي بعينيها المنهكتين . أ جنية تمتثل أمامي الساعة ؟! كيف انتهت من عملها وسبقتني كالريح؟! كيف اخترقت حدود الزمان والمكان ؟! و لكي أتأكد أكثر نظرت في ساعتي فتبين لي أني قد تأخرت كثيرا في الباحة ، فهدأت شوا ردي .

 رمقتها بنظرة ثم أشحت بوجهي عنها ، والتفت إلى قريبتي وسكبت في أذنها سيلا من الأسئلة :

- أتذكرين قدم والدها الاصطناعية الملقاة في ذلك البئر بجانب المقبرة ؟!ألا تزال موجودة ؟ !

 أجابتني :

- أذكرها ؟ لكن لا وجود لها ولا للبئر بأكملها الآن .

قلت لها : كانوا يقولون أن والدها قد أصيب في الحرب ، فبتروا ساقه إثر غرغرين ألمت بها ، ثم توفي على أثرها و ألقوا بقدمه البلاستيكية في البئر .

أجابتني: كم أنت قوية الذاكرة ! و كم كنت أكثر جرأة منا !

قلت لها : نعم كنت كذلك ، كنت ألقي برأسي داخل فوهة البئر . و أراقب اهتزازها وهي تطفو على الماء بينما كانت تراودني مئات الأفكار و تختلجني مختلف الأحاسيس والمشاعر . مسكينة وعد! لقد أورثها والدها شقاءه ، مات وهي ما تزال جنينا في رحم أمها.

 وما كدنا أن ننهي حديثنا حتى صوبت سهام أسئلتها الحادة نحونا:

- هيا أخبراني ما الذي تتحدثان فيه ؟! ماذا تقولان عني وعن أبي ؟ لا تخفيا شيئا . شعرت بالحرج الشديد ، و للمرة الثانية أخجل من نفسي . لكن سرعان ما أنقذتني قريبتي من هذا المأزق المخجل حين أجابتها :

- بكل صراحة نحن نتحدث عن ساق والدك الاصطناعية التي ابتدأ بها شقاؤك .

لكن سرعان ما صدرت عنها قهقهة نزعت صمت و وقار المكان ،

 وتوجهت أنظار الجميع نحوها ، وقالت :

 - إن ما حدث لوالدي هو عزائي الوحيد فلقد أورثني ببتر ساقه وسام شرف وعزة أتباهى به على الجميع .

وها أنا ذا أخجل من نفسي للمرة الثالثة ، و حتى لا أتورط في مواقف اقتحام أخرى لها ، انصرفت من بيت العزاء، وتبعتني روحي وقد نقاها هواء الباحة ، خرجت من الشارع بأكمله لأجد نفسي وسط الزحام ، إشارات ضوئية ، أصوات ضجيج وعجيج ، ونسوة رأيتهن توا في بيت العزاء قد تناثرن عند الباعة ، قضيت حوائجي أنا أيضا من السوق و عدت في اليوم التالي ، و أنا في طريقي رأيتها تمارس عادتها المعهودة ، مررت من جانبها دون أن

أطرق السلام ، فلم تلحظني ، دخلت الباب ، أشحت بوجهي عن الدهليز حتى لا يغريني بدخول الباحة ، دخلت منزل العزاء أمضيت وقتا ليس بطويل ، خرجت من المنزل وأنا سعيدة أني لم أرها ، حتى لا أتورط في مواقف أخرى أكثر معها . و أنا في غمرة فرحي ارتطمت دون أن أدري بشخص كان يدخل من الباب ، رفعت بصري فإذا بها هي أمامي ، صمتنا برهة ، ثم ملأنا المكان ضحكا .