طاطي
عبد الواحد الزفري*
حمال يرى الدنيا بعين واحدة بعد أن فقد الثانية في ظروف مجهولة، عرفته منذ صغري بسيط المظهر، أسمر اللون، قصيرا كما أنه كان ضعيف البنية. أذكر جيدا أنه كان يمر في دروب حينا بسرعة،كأنه يسابق خيول الزمان، عربته "راضية" كانت لها عجلة يتيمة، جالت كل شوارع وأحياء المدينة (الراقية والهامشية) حتى أصابها الدوار فصارت تتمايل يمنة ويسرة، كما السكير وقد فقد توازنه. دائما كان يردد لازمته بصوت ألثغ رخيم:
- "بلاء… بلاء…(ابتعد).
كنا نجري وراءه باستمرار ونحن نردد:
-"زد طاطي وطاطي يا طاطي"…(أكثر من التجوال(.
كان طيب القلب: لم يضرب أحدا منا قط ولا حتى نهرنا يوما ، كان يتركنا نمارس ساديتنا الطفولية، وإن كانت على حساب كرامته أو جسده لما كانت تصيبه حجارات مقاليعنا، لا يهمه سوى الوصول بحمولة عربته إلى الوجهة المقصودة بأقصى سرعة قد تتحملها عربته "راضية".
فوجئت به بعد غيبتي لسنين طويلة عن المدينة، وكأنني رأيته بالأمس القريب فقط. لم يغير الزمان فيه شيئا نفس التقاطيع نفس الحجم والنحافة، كل شيئ فيه هو هو، كما أن طاقيته هي هي لازالت على حالها ولا زال غبار الدقيق عليها. ظل "طاطي" مثل مومياء لكنه لم يكن بحاجة للتحنيط: بساطة عيشه وتجواله الدائم تركيبة سحرية لم تخطر على بال دهاقنة كهان الفراعنة. وتلك العربة ( المتسكعة) لم تصح بعد من سكرتها، تتمايل كعادتها وتردد أغنيتها :
-"زيط الريط... زيط الريط...".
ما تغير فيها شيء، عدا ألواح أضيفت لدعم هيكلها،كي يصمد في وجه الحر ورطوبة الشتاء، وكانت" راضية " مخلصة لحبيبها " طاطي "، ما فكرت أبدا في البحث عن حمال جديد، أو خلع ألواحها عنها وظلا صامدين معا كالسندان تحت مطارق الزمان، محافظان على صلاحيتهما ضد التعفن، في محاولة لاضاقة عجيبة جديدة لعجائب الدنيا السبع.
بدا لي "طاطي" أكثر تصميما مما مضى على نقل أثقال، ترفع أو عجز أصحابها عن حملها وظل يلقنهم درسا في عنترية لا تحتاج لعضلات ويطرح عليهم ذاته، كلغز يستحيل حله، أو رسالة مشفرة تحتاج لحاسوب -لم يصنع بعد - كي يفك رموزها.
دفعني الفضول أن أتتبع خطاه لمعرفة مسكنه، الشيء الذي لم نكن نجرؤ على فعله عندما كنا صغارا سيما وأن جميع زبنائه قد خلدوا للنوم.
اقترب "طاطي" من دروب حي "الديوان"، ربط عربته بسلاسل من حديد، وضع عليها أقفالا كبيرة ليس بمقدور "كونان" ولا حتى "هرقل" نزعها، أوصى الحارس الليلي لتلك المنطقة أن يتفقدها باستمرار وقبل الابتعاد عنها عانق ذراعاها وربت على ظهرها، ثم قبلها قبلة العاشق لمعشوقته (بعد طول هجر) وتمنى لها ليلا مريحا:
- نامي حبيبة القلب موعدنا فجرا، إن شاء الله.
فبدت لي وكأن لها قلبا ينبض: لما حاولت المسكينة فك الأقفال عنها في محاولة للحاق بحبيبها.لم يكن "طاطي" بحاجة إلى استعراض طلباته، وهو يقف على عتبة الدكان الصغير القابع في ذاك الركن المظلم، بل أدخل يده في جيبه الداخلي، وأخرج قطعا نقدية تأملها للحظات، ابتسم في وجه البقال الذي ناوله خبزا وزيتونا ونعناعا. أخذ طلبه وتوجه نحو دروب الحي القديم وهو يتلاعب بكلمات أغنية قديمة ل "صباح":
- "على البساطة، البساطة بيغديني الدهر بطاطا و يعشيني خبز وزيتون..."
انتصب شعر رأسي إكبارا لقناعته واستغرابا لحال هذا الكائن. كيف يقوى "طاطي" على الغناء؟ بعد يوم كله مشاوير لاتساوي بعد إنهائها سوى تعب كبير لأجل عشاء بئيس، خطا خطواته في ثبات ولم يلتفت إلى الخلف، هم بالرقص عند سماعه لإحدى الأغاني التي كانت تنبعث من نافذة إحدى المنازل، لكنه انحنى وكأن عطبا ما وأد رقصته، التقط حذاءه وبرقة خاطبه:
- أمهلني يا عزيزي حتى الغد وسأرافقك كالعادة إلى طبيبك المفضل.
أدخل فيه قدمه من جديد لكن الحذاء أبى أن يستجيب لطلبه وانشطر.
- كن صبورا مثل عربتي "راضية"، التي تحمل طوال النهار الأطنان من الأغراض ولا تشتكي، أما أنت فلا تحمل سوى هذا الجسد الهزيل.
تأبط شره (حذاءه) ومد يده نحو جيب معطفه الرمادي، الذي يحجب بقع الزيت وغبار الزمان، فخرجت أصابعه لاستنشاق الهواء العليل، من جديد أدخل يده في سرواله وأخرج مفتاحا كبيرا أسود اللون،كأنه مفتاح دير عتيق، ثم أدخله في عقب باب سريالية، تبت عليها جميع أنواع علب السردين (الفارغة) منذ ظهورها:كان يسد بها الثقوب ويحتفظ بأشكالها (كهواية جمع الطوابع البريدية أو النقود القديمة).
لأول مرة التفت نحوي وكأنه يعرف وجودي خلفه سلفا، رفع إبهامه إلى السماء وصاح بصوت متقطع:
- أشهد... أن... لا إله... إلا الله... وأشهد أن محمد... رسول الله.
سقط الشمعة وباقة النعناع وحبات الزيتون وهوى كالهرم على الأرض محتضنا ( شره ) وخبزته الأخيرة. أسرعت نحوه لكن ملك الموت كان أسرع مني ومنه، حمل روحه على عربته اللامرئية ليودعها في مستقرها الأبدي.
مات "طاطي" وفي ظهر اليوم الموالي شيعت جنازته مع بعض الحمالين لا غير، بعد أن لفوا جثثه في كفن ناصع البياض لم يحلم "طاطي"بارتدائه في حياته مطلقا. ساعدت في وضع نعشه على عربته ذات العجلة الواحدة، ولأول مرة رأيتها تصحو من سكرتها وتستقيم في دورانها احتراما لجثمان معشوقها "طاطي".
ولما اقتربنا من مثواه الأخير - في الركن القصي من المقبرة - أحدثت "راضية" عويلا يفوق نواح خنساء على أخيها صخر.
*
قاص من مدينة القصر الكبير المغربية.