حكايتي مع مذنب سابق
سلمان عبد الأعلى - كاتب وباحث سعودي
شاءت المشيئة الإلهية أن أجتمع في عمل واحد مع أحد الأشخاص الذين لم أرى مثلهم في حياتي، فهو إنسان متميز بحق، غير أن تميزه يختلف عن تميز غيره، فتميزه يكمن في اختلافه الغريب عن الآخرين لا في إبداعاته وتفوقه عليهم، فلقد قدم إلينا كموظف جديد في فريق العمل الذي كنت أعمل فيه.. ومنذ الوهلة الأولى لرؤيته أحسست بأنه إنسان غير طبيعي، فتقاسيم وجهه الذي دائماً ما كان يطبع الابتسامة عليه كانت تخفي ورائها حزناً وهماً عميقاً، وكانت عضلات وجهه لا تمل من الحركة بسبب وبغير سبب، كما أن مشيته وحركاته غريبة أيضاً، فهو يترنح في مشيته وكأنه يمشي على أرض غير مستوية..
أما أطرافه وبالخصوص يديه، فهي لا تمل من الارتعاد والهز والاهتزاز بشكل غير إرادي، وكأنه ذالك العجوز الذي قد أنهكته الحياة ولم يعد قادراً على الحركة بصورة طبيعية، مع أنه في بدايات العقد الرابع من عمره. وأما طريقة كلامه، فهي لا تقل غرابة أيضاً، فهو يتكلم بنفس الطريقة التي يتكلم بها علية القوم، بصوت صاخب ومضخم وبثقة عالية، مع أنه كان يعمل في وظيفة متواضعة وبسيطة جداً، لا تنسجم طبيعتها مع طبيعة كلامه !
لقد كان دوماً مختلفاً عن الآخرين في كل شيء تقريباً، حتى في مواقفه وتصرفاته، وليس فقط في هيئته ومظهره، فلقد لاحظته يخالف زملائه من الموظفين في كل شيء تقريباً، فإذا تفاءلوا بشأن العمل رأيته يفرط في التشاؤم، وإذا تشاءموا رأيته يفرط في التفاؤل بطريقة غير عقلانية ودون أن يقدم سبباً مقنعاً لذلك.. نعم، هكذا كان حاله دائماً.
أتذكر أيضاً العبارة التي كان يكثر من استخدامها مع أنها ليست مألوفة، فكثيراً ما كان يتوقف عن العمل، ويقول بنص العبارة: ((أنا رايح أحتسي السيجارة في أحد منكم يخاويني))، فلقد كان كثيراً ما يردد هذه الكلمة مع أن العبارة الشهيرة والمتداولة هي: أشرب سيجارة وليس أحتسي !!
لقد كان فعلاً شخصاً غريب الأطوار، في شكله ومظهره وفي مواقفه وتصرفاته وألفاظه، مما يدلل بأن له قصة في حياته أثرت فيه أو عليه وكونته بهذه الشاكلة الغريبة.. فما هي يا ترى؟
في البداية ظننت أن الرجل لا يريد البوح عن ما يخفيه من قصة، ولهذا لم أتحدث معه عن ماضيه وما الذي أتى به لهذا العمل، ولكن ما حصل هو العكس تماماً، فلقد خالف توقعاتي مائة بالمائة، فما إن تعود علينا حتى راح يكشف لنا عن ماضية وعن تفاصيل حياته الدقيقة، متبرعاً بذلك من تلقاء نفسه دون طلب من أحد.
ففي أثناء أحاديثه معي صرح لي بأنه مذنب سابق.. أجل، مذنب سابق وليس وزيراً سابق أو مسئولاً سابق، مع أنه في طريقة كلامه لا يختلف كثيراً عن هؤلاء، لأنه كان يتكلم بشموخ وبكل فخر واعتزاز وبثقة منقطة النظير..
لقد قال لي بالحرف الواحد: "لا تتوقع أن هناك ذنباً واحداً في هذه الحياة لم أفعله، فلقت فعلت كل شي" ومن ثم استثنى قائلاً: ما عدا إغضاب الوالدين وذكر شيئاً آخر لم أتذكره..
وبعدها تنهد وقال: "الحمد لله الآن ربي تاب علي" في إشارة منه بأنه تائب عن الذنوب التي كان يرتكبها، ولكن طريقته في عرض ذنوبه كانت طريقة غريبة لم أعهدها من قبل، فلقد كان يحدثني عنها بكل فخر وسرور ودون أي خجل، مما يثير في نفسي الاشمئزاز والنفور منه، مع أنه كان بعد كل قصة يتحفني بها يكرر قوله: ((الحمد لله الآن ربي تاب علي)).
لقد أدهشني هذا الرجل بأحاديثه أكثر مما أدهشني بمظهره وبأفعاله، فلقد كان المشهد السابق يتكرر منه معي مراراً وتكراراً، فهو يعيده ويكرره يومياً أو شبه يومي، دون خجل من نفسه، إذ كان يتحدث دوماً عن ذنوبه السابقة –على حد تعبيره- بنفس الطريقة التي كان يتحدث بها غيره عن إنجازاتهم العظيمة أو الجبارة، وكثيراً ما رأيته يظهر السعادة والسرور وهو يعرضها لدرجة تسمع فيها صوت قهقهاته، وكأنه في ذلك مسئول سابق يحب الحديث عن إنجازاته السابقة التي فقدها وحن إليها بسبب فقدانه لمنصبه، ولكنه يختلف عنه بإعلانه التوبة مردداً عبارته المعتادة: ((الحمد لله الآن ربي تاب علي))!!
إن هذا الرجل جعلني أحار فيه وفي أمره، فهل صحيح هو مذنب سابق كما يقول؟! وهل هو نادم فعلاً عن ذنوبه السابقة؟ ! وإذا كان كذلك، فلماذا يتجاهر بها إذن؟ !!
يبدو لي أنه لم يكن كذلك، لأنه يتجاهر بذنوبه ويتفاخر، وكأنها وسام شرف يستحق التكريم والإعجاب من الآخرين. أوليس الندم على الذنب هو التوبة أو هو شرط من شروطها؟ !
إن هذا هو ما جعلني أتذكر مقطع مناجاة التائبين الذي يقول: "إلهي إن كان الندم على الذنب توبة فإني وعزتك من النادمين وإن كان الاستغفار من الخطيئة حطة فإني لك من المستغفرين" ولكن أين الندم وأين الاستغفار ممن يصنع كصنع هذا؟