الرحلة إلى المنتهى
الأزهر اسماعيلي
" الخروج من الصمت يتم ..
بكلمة مجازفة "
- مظفر النواب –
حمله جناح الحمامة البيضاء مرة أخرى في رحلة بيضاء بأنحاء الأبدية البيضاء.. الإحساس باللازمن.. باللاوجود.. اللاإحساس بثقل الهواجس والأشياء.. اللذة.. لذة الاحتراق بنار الحقيقـة الـعظمى.. انغـرس البياض الحبيب منذ أكثر من أسبوع في شقوق روحـه الظمأى، وتفرعت جذوره في أعماق محيطه يوما بعد يوم، فأنبت شجرة حنين خضراء نضرة، تكللت بورد أبيض أضاء وجهه الممتدة فيه لجتان زرقاوان، عميقتان، هادئتان، تعانقان زرقة السماء.. وبمجرد أن وجد نفسه خارج المسجد – ككل مرة -، تحلّل البياض، الذي غمر روحه شيئا فشيئا وسط الهواجس والأشياء.. في هذه الليلة، تذكر " درويش ":
" لا الرحلة ابتدأت ولا الدرب انتهى
لم يبلغ الحكماء غربتهم
كما لم يبلغ الغرباء حكمتهم
ولم نعرف من الأزهار غير شقائق النعمان"
" نعم.. لا يمكن – طبعا – أن أعرف في أقل من أسبوعين كل الأزهار!.. لكن الرحلة يجب أن تبدأ.. يجب أن تبدأ هذه الليلة! ".. قال ذلك، وهو ينطلق في اتجاه البيت.. المسافة بين المسجد والبيت طويلة.. والرحلة يجب أن تبدأ هذه الليلة!!.
وشاح الصمت الرهيب المخيف لم يستطع بعدُ ليلُ المدينة تمزيقه.. خيالات الأشباح المترصدة في الزوايا المعتمة من الأحياء ( وحيه – النابت كالفطر في طرف المدينة – بكامله زاوية كبيرة معتمة ).. لا تزال هذه الأشباح ساكنة أعماق النفوس التي شوهها القلق المتواصل، والموت المتحفز في كل لحظة طيلة سنوات.. وكيف ترحل وهي بعد حية بمنظرها البشع المقرف، تمتص بقوة وإصرار كالعلق كلَّ ما تبقّى من حرارة الطموح، والأمل، والشوق، والحنين، في هذه الهياكل العشواء المتخفّية تحت بقايا جلد ممسوخ، متشقق، أحرقه لفح نيران السماء والأرض.. في هذه الوجوه المسافرة في صفرة الموت الباهتة بعيون باردة، غائرة، حائرة، تائهة، مشدوهة، مشدودة إلى فراغ اللانهاية.. كيف ترحل و؟.. وعاد يردد كلمات "درويش" بصوت خافت( علمته تجارب سنوات الجمر أن للصمت آذانا وأيد تجمعت فيها كل مواهبه ومواهب الأولين والآخرين في إبداع عوازل الصوت، في صمت معلن بفخر جهوده المخلصة المضنية في تحرير الأصوات " المعزولة" !.. الصمت أيضا علمته تجارب إنسان ما قبل الزمن أن حياته مرهونة بأداء هذه المهمة.. المقدسة!.. ولا وقت لديه – حتما – لسواها!).. تجسدت كلمات "درويش" أمام ناظريه:
" لا القوة انتصرت
ولا العدل الشريد"
خرج الصوت، وهو يردد المقطع مرة أخرى، من بين جوانحه ملفوفا بآهة حارة: " لا القوة انتصرت ولا العدل الشريد ".. رأى أرواح الكلمات تسري في كل ما حوله.. أكمل إنشاده الخافت.. كان المقطع الذي انفجر به يكسّر كل ما تبقى من قيود ليخطو أول خطوة:
سأصير يوما ما أريد
سأصير يوما طائرا، وأسلّ من عدمي
وجودي كلما احترق الجناحان
اقتربت من الحقيقة، وانبعثت من
الرماد
لكن الجناحين لم يحترقا، بل حلقا به في اتجاهات شتى.. متداخلة.. متضادة.. لم تكن سوى شيء واحد: نفس مجروحة.. ممزقة. مرت بخياله صور كثيرة واضحة، كأنه يلقي عليها آخر نظرة قبل بدء الرحلة، أو يسألها إشارة خضراء ( حينما نقرر الصعود أو النزول بعد حياة أفقية، لا نجد في نفوسنا قوة دفع ذاتي، فنتوسّل يدا تدفعنا؛ حتى إذا سقطنا، أو عرفنا بأننا سقطنا!، وجدنا جرأة نغطي بها تفاهتنا وضعفنا فنقول: لقد دُفعنا.. ولم نندفع.. أو لم تكن اليد الدافعة بالقوة الكافية!!). أوقفته كلمات " درويش" عند إحدى الصور:
جئت قبل ميعادي
أنا من هناك إلى "هنا"ي يقفز
من خطاي إلى مخيلتي...
أرى السماء هناك في متناول الأيدي...
ولم أحلم بأني كنت أحلم، كل شيء واقعي...
أرض قصيدتي خضراء عالية
كلام الله منذ الفجر أرض قصيدتي
رآها "هنا" ك.. بسطوحها القرمزية النائمة فوق المنازل البيضاء، تحتضنها خضرة الجبال بين زرقة السماء والبحر.. رآها قطعة مهربة من الفردوس، وأصبحت.. فردوسه المفقود الذي ودّعه ذات يوم(مع أسرته) بعد ليلة رهيبة منذ أكثر من أربع سنوات، هروبا من الموت الذي كان يزورهم كل ليلة مع وعد بالعودة.. ووجد نفسه بهذا الحي المنسي. لم تمض تلك الليلة أبدا، رغم ما جدّ من تحسّن في حياته، فقد تخرّج هو وصديقه " كمال"، واشتغلا بالمؤسسة نفسها، وأحب فيه المحيطون به نشاطه وأخلاقه وثقافته.. وحكمته.. غير أنّ ظلام الليلة اشتدّ في الفترة الأخيرة من حياته، مثل كثير من الشباب الذين لم يجدوا من الدهاليز مخرجا ولا شمعة تضيء لهم الطريق، أوّلهم " كمال"، الذي وقف بقامته المديدة أمام عينيه.. أحسّ بوخز الضمير.. لم يخف أحدهما عن الآخر من قبل أيّ شيء، وقد هدّ هو القاعدة هذه المرة. كانت صورة " كمال" محطته الأخيرة، فقد قرر تنفيذ ما عقد عزمه عليه نهار اليوم نفسه، حين كان يقول لـ " كمال": " لا أريدك أن تظن يوما بأن ثقتي فيك يمكن أن تهتز.. كل ما في الأمر هو أنّ الوقت الملائم لم يحن بعد.. وأطمئنك بأنه قد اقترب، وأنا واثق بأنك ستفرح كثيرا حين أخبرك!".
وتأكد أخيرا بأن الرحلة يجب أن تبدأ.. وصل إلى البيت.. تناول طعامه بسرعة.. في غرفته الضيقة، اتجه نحو الطاولة المتواضعة، وأخرج من أحد الكتب الموضوعة فوقها مجموعةً من الأوراق المكتوبة.. وضعها أمامه.. تناول ورقة بيضاء.. وكانت دفعة من "درويش":
أنا لست مني إن أتيت ولم أصل
أنا لست مني إن نطقت ولم أقل
أنا من تقول له الحروف الغامضات:
اكتب تكن
وكتب: " هذه الكلمات، كتبتها بعد عودتي إلى البيت مباشرة يوم رأيتك آخر مرة.. ولا أظن أنك نسيت ذلك اللقاء!.. لقد كانت محاصرة، ثم " محاولة " مني لتعرية نفسي وما حولي أمام نفسي على الورق!، فالحقائق المخفية – خوفا وعجزا وغربة – في ضمائرنا أو أقبية نفوسنا المظلمة النتنة، هي أرواح فيها كثير من الفظاعة والسحر، لا تمارس فعلها إلا إذا منحناها أجسادا تحيى فيها وبها.. تركت الكلمات تلبس اللقاء ما شاءت من ألوانها، وتضمّخه بما شاءت من عطورها. كنت فقط أخاطب طيفك.. وها هي اليوم أرواحها تسكن كل ذرة في كياني من جديد. لقد تركتها كما هي، بكل حرارتها، وصدقها، وتفاهاتها، ومشاكساتها، وصراحتها الجارحة – وتلك طبيعة الصراحة – دون أيّ تغيير.. أما لماذا فعلت ذلك؟ ولماذا أرسلها اليوم إليك؟، فهذا أمر لن تفهميه ولن تعرفيه، إلا بعد قراءتك لها بكل ذكائك.. وكل مشاعرك إلى آخر كلمة ".
وضع نقطة ثابتة واثقة.. حمل الأوراق المكتوبة بين يديه، وأخذ يعيد قراءتها بتأنّ، كأنه يريد التأكد من عدم وجود مهاجرين غير شرعيين بين كلماتها:
" أخرجْ ؟!.. لا.. هذا غير معقول!.. وكل العمل الذي ينتظرني؟.. متى أتمه؟.. بأي وجه سأقابل المدير وقد وعدته بتسليم الملف كاملا يوم غد؟.. ثم إنّ الفصل في القضية متوقف على التقرير الذي يجب أن أقدمه... وقضيتي أنا؟! من سيفصل فيها؟ ومتى؟.. رأسي يكاد ينفجر.. لا.. لا أستطيع تحمّل سجنين.. يجب أن أفرّ.. ولكن.. ممّ أفرّ؟ وإلى أين؟.. ماذا أصابني؟.. هل أنا مرهق من كثرة العمل؟!.. لا، لا أظن.. نبرة " كمال " العميقة الثابتة وهي تحمل إليّ كلماته – حين كنا مساء أمس في المقهى- كشفت لي زيف وتفاهة التفاصيل الصغيرة الفارغة التي تشغل كل لحظة من أيامنا، وتحجب عنا الحياة.. نعم.. هذا ما يقرفني الآن.. التفاهة.. الزيف.. أذكر وجهه الشاحب المهموم جيدا، وإجابته بعد أن سألته: " أهذا حال من يعود إلى العمل بعد شهر كامل من الراحة؟!".. لقد نظر إليّ بابتسامة ساخرة أفرغتني ليملأني بعدها بما شاء.. ثم قال:
" هلاّ نظرت إلى وجهك أنت في المرآة؟ ".. أضاف بعد لحظة صمت بجدية لم أعهدها فيه: " هل تعرف؟.. لقد منحتني هذه العطلة فرصة للتأمل.. كنت أريد بها الراحة، فإذا بي أكتشف أثناءها زيف ما كنت أطلبه وما فررت منه.. إنّ المشكلة ليست في العمل أو الراحة.. ذلك أمر لا يتجاوز الجسد، وحلّه بسيط.. إنّ مشكلتنا أعمق من ذلك بكثير.. هل ترى هؤلاء الشباب الجالسين أمام المقهى بثيابهم الجميلة المستوردة، وأحذية آخر طراز، وأجسامهم الغضة، وهم يلتهمون بعيونهم، وغمزاتهم، وتعليقاتهم، كلَّ رائحة وغادية من عارضات الأجسام والأزياء؟.. وجماعات عدم الانحياز هذه المنزوية في الزوايا المهرّبة خارج الزمن داخل المقهى حول أحجار النرد؟.. إنهم جميعا – وغيرهم أيضا – يعيشون هذه المشكلة.. لكنهم بما يفعلون يحاولون، عبثا، خنق الأسئلة النابتة في نفوسهم كالحراب المسمومة.. والمشكلة بين الشباب أعمق وأخطر.. ألم يشد انتباهك كثرة الفاقدين عقولهم منهم؟!.. ألا تقرأ ما تطلع علينا به الجرائد في الأشهر الأخيرة من أخبار انتحارات الشباب؟!.. قل لي بربك: بم تفسّر انتحار شاب في الثلاثين من عمره؟!.."
لقد أحسست حينها بهزّة سرت في كياني وقد أصبحت لهجته حادة تشوبها مرارة.
أرى الآن " كمال " بوجهه الشاحب وعينيه القلقتين وطوله الفارع.. كلماته تقوّي في نفسي نزوعها إلى التشرّد.. الغثيان، الرغبة في الفرار، الشوق إلى شيء ضاع مني لا أدري ما هو، كلها مشاعر تشرنقني.. تحاصر عقلي.. أجدني في الشارع: الوجوه.. ألوان الملابس.. طريقة المشي.. السيارات.. الشاحنات.. حتى الغبار الذي تثيره.. كل شيء هو ما رأيته الأسبوع الماضي، ويوم أمس.. لا جديد.. هذا " عمي عبد الله " أمام مرآبه.. تمثال مهمل ممّا خلّفه الرومان على هذه الأرض التي كانت طيبة طاهرة قبل أن يمرّ عليها الكثير من الأقدام الملطخة بالوحل والدم.. لا شيء تغيّر فيه.. وجهه المستطيل الذي يتقدمه أنف طويل رقيق.. فمه الذي خلّف تهدّم الأسنان وأمطار السنين أخاديد عميقة حوله.. شعره الأشيب.. جلسته.. هي نفسها: ظهر مقوس على كرسي خشبي عتيق مشدودة مواضع منه بقطع من قماش مختلفة الألوان، كأنه يخشى تغييره بآخر جديد.. هو لا يحب الجديد ولو كان جميلا مفيدا، فتاريخ إنتاج حاسة نظره يعود إلى قرون مضت.. أشعر كلما مررت به بعبثية حياته وتناقضها.. أنظر إلى مرآبه الخالي إلا من أشيائه الصغيرة التافهة: طاولة خشبية جميلة أبدعتها يداه، فوقها مذياعه الصغير ذو الصنع الروسي.. المرآب نظيف ومنظم.. ساحته أيضا، لا أثر فيها حتى لأعقاب السجائر والأوراق والأكياس ( منظر لم يعد يخدش مشاعرنا التي جرحت بما هو أفظع وأشد وسخا، وما بقي بها أثر لدم حار!) ثياب " عمي عبد الله " المتسخة الباهتة الألوان، وطعامه الذي لا يتجاوز أبدا الخبز وحليب الأكياس مع يسر حاله.. كلها تقول لنظافة مرآبه وتنظيمه شيئا آخر.. كل من يعرفه ينظر إليه بسخرية يخالطها عجب وإشفاق.. لكنني أقول لنفسي هذه المرة: كلنا نعيش التناقض، ولكن بصور أخرى أبشع وأعقد.. غير أننا لا نراه ولا نحسّ به؛ لأن أبصارنا مشدودة دوما إلى الخارج لا إلى الداخل.. أو أننا نراه ونلتذّ بممارسته؛ لأننا نحسن اللعب بالكلمات على حبلين، ونلبس اللغة ثوبا أسود يخفي تناقضنا وبشاعتنا، فليس في لغتنا غير الضمائر المستترة والمبتدآت بغير أخبار!. لم يبق في نفسي مما كنت أشعر به نحو " عمي عبد الله " – بعد أن تجاوزت مرآبه – إلا ما يبقى من رائحة الطعام في الأواني المغسولة!.. غير أن شيئا جديدا يشدّني إليه: إنني لا أختلف عنه.. لا.. غير ممكن!.. هو لا ينتظر إلا استلام وثائق تقاعده من الحياة.. أما أنا!!.. ويحكم نزوع التشرّد خيوط شرنقته حولي.. حرارة الشمس المتغلغلة إلى يافوخي لا أكاد أحسّ بها.. ما يغلي داخل رأسي أقوى منها.. هذه الوجوه الكثيرة أمامي هي نفسها.. لا جديد فيها، ولا فرق بينها.. هي كلها أنا.. كل واحد منهم يقفز فوق أسئلته بطريقته.. هؤلاء الداخلون إلى الصيدلية، ألا يعرفون بأن الأدوية بأثمانها القاتلة لن تشفيهم؟!.. ألا يعرفون بأن الأطباء أنفسهم مرضى؟!.. وهؤلاء الداخلون إلى محل الحلاقة الصغير الوسخ، الذي تجمّع في شباك العناكب الساكنة زوايا سقفه المسودّ شعر وذباب كثير؛ ألا يعرفون بأنهم يخدعون أنفسهم؟!.. إنّ ما يحتاج إلى تزيين ليس جماجمهم ولا وجوههم!!.
كل هذا يقوّي نفوري، الذي لا يخفف من حدّته إلا وجه صديق عزيز.. هو ذا مقبل نحوي كأنه آت من بعد آخر: خطوات هادئة، ابتسامة لا تعرف النفاق.. تفصل بيننا سيارة كانت متوقفة.. أنتظر حتى تمر.. فجأة!.. ألمح وجهك الجميل على الرصيف المقابل.. عيوننا لا تلتقي- كما حدث منذ سنين -.. تتفتح ورود غضّة حمراء في وجنتيك صارخة: روحي تراك!.. يتحوّل الديكور الداخلي والخارجي بسرعة خاطفة.. تتلملم الأشياء، والمسافة، والناس، والطريق، والصخب، والشمس، والظل، والمياه القذرة الجارية والراكدة، والبيوت، والمحلات، والأرصفة.. والزمن.. حتى الطفل الذي كان معك.. الكلّ ينسحب.. يلفّه العدم الصامت.. يسحبه بعيدا، بعيدا.. حيث لا نراه، ولا نسمعه، ولا نشمّ روائحه.. حيث لا يقف حائلا بيننا.. ونبقى وحيدين.. متوحّدين.. يغرينا الصمت نحن أيضا.. تحلّق بروحينا أنسام نديّة إلى حيث أطياف الحياة الشفافة الغامرة، وأطيار الذكرى التي نسمع رفرفة أجنحتها البيضاء.. أنت تختطفينني من خطواتي.. من عقلي.. من وطأة الزمن الرهيب الهارب.. من صديقي الذي لم أره منذ زمن.. إنه يشهد لحظة الاختطاف.. جريمتك الحلوة.. تنبت داخل رأسه علامتا استفهام وتعجب، وتتضخّمان حتى تطلاّ من عينيه.. لا مكانته في قلبي، ولا طول الغياب يشفعان له سوء اختياره وقت اللقاء.. وهل اختاره؟!.. قدره.. قدري.. قدرك.. هو الذي جمعنا نحن الثلاثة في هذه اللحظة الوردية الممزقة بنورها الباهر المربك عتمة الألوان المحاصرة أرواحنا.. إنه قشّة بين عاصفتين.. عاطفتين.. قطعة حديد صغيرة مهملة بين مغناطسين متجاذبين تحول دون تعانقهما.. توحّدهما.. أو هكذا يبدو لي (لعلك وحدك القوة الجاذبة!).. صديقي عن طبع قليل الكلام.. كنت دوما أجدني مضطرا إلى استفزازه ليكون الكلام بيننا مدا وجزرا.. أما هذه المرة.. بأيّ عقل أستفزّه.. وبأيّ لسان؟!.. أنا نفسي بحاجة إلى من يستفزني.. يخلخلني.. يجمع شظاياي المترامية.. كلماتي(التي لا أسمح لها عادة بالخروج إلا وهي لابسة ثيابها القزحية.. متزينة.. متعطّرة) أدفع بعضها دفعا لتطلّ عليه من النافذة في ثياب نومها.. شعثاء..باردة القسمات..لا تغري ناظرا.. تتمنّع الأخريات ولا تعرف حتى طريقها إلى النافذة.. أودعه على أمل اللقاء، وفي نفسي حسرة وإشفاق، وشيء كالعتاب، سرعان ما ينسحب الجميع إلى ظلمة العدم.. وأعود إلى توحدي الذي لم أفارقه!.. كلك – من رأسك إلى أخمص قدميك – عيون تقرؤني، تستقرئني، تشرّحني، تغزوني، تستكشفني، تتوغّل بشعاعها الوهّاج المحرق في أغواري.. إلا عيناك.. فهما مسمّرتان على الطريق أمامك، طفل يرى أمه بعد طول غياب.. تناغيه مبتسمة له ابتسامة شوق، يكاد يطير من بين يدي أخته – التي تشدّه – إلى صدر أمه.. لكنها تمرّ..هكذا، ببساطة، ويختفي طيفها.. أنت أخت عينيك.. وأنا أمهما التي لم تناغ، ولم تبتسم!... تذوب خيوط شرنقة النزوع إلى التشرد.. لا.. إنها تتحول.. أبجدية لغتك هي التي تشرنقني الآن.. إنها لغة لا أعرف كيف اهتديت إليها، ولا كيف اخترتها دون سائر اللغات.. كثير من الناس يعرفونها.. لكنها لغتك أنت وحدك.. فرحك.. شوقك.. حياؤك.. أية وجنتين يمكنهما تشرّب أبجديتها غير وجنتيك؟!، أية عينين تستطيعان تلحين كلماتها الساحرة غير عينيك الخضراوين، الواسعتين، الصافيتين، البريئتين، الجريئتين، الحالمتين؟!.. أية ابتسامة غير ابتسامتك الآسرة يمكنها قيادة هذه الأوركسترا المتناغمة المسافرة في ممالك الجمال؟!.. أيمكن ترجمة بدايات "المتنبي" العالية: " آحاد في سداس في آحاد "؟!.. أيمكن نقل " موزارت" أو " تشايكوفسكي" إلى غير لغة الموسيقى؟!، أو تحويل لوحات " دالي" إلى كلمات؟!.. فكيف لي أنا أن أترجم لغتك التجريدية هذه؟!.. أريد قراءة أثر سحرها بكل حواسي.. تسجيل موجات هذا الزلزال الذي يهدّني في لحظة ويوحّد كل شيء داخلي في تنافر عجيب جميل.. لكني لا أملك غير الكلمات!.. وأبقى معذبا بلذة جهلي..
بربك قولي: هل تخططين لهذه الفواصل الهاربة المزلزلة؟!.. من أين لك بهذا الحس الفني العالي حتى تستطيعي اختصار كل هذه السهام، والرماح، والسيوف، والرصاصات في هذا المشهد الخاطف: يُرفع الستار.. ظلمة.. يمزقها بارق يملأ النفوس قبل خطف الأبصار، فتتشابك الأهداب بقوة، لم تحتمل النور.. ظلمة.. ترى داخلها نورا.. أفواه مفتوحة، أنفاس صاعدة، هابطة، تستجيب لها الأجسام في حركتها.. تتشابك المشاعر كلها كنسيج امرأة تجهل أسرار الفن، تخرج منه بلا شيء هو كل شيء، و.. ينزل الستار.. كل هذا، في زمن خطوة عجلى!.. أخشى أن يفضحني هذا الشعور الجميل القوي، الذي يحوّل الرجل الحازم القوي فيّ إلى طفل يرنّحه الخدر(أإلى هذا الحد نخشى أن نكون " نحن " ببساطة؟!).. يغلبني التوحد.. إنه أقوى مني.. أرغم شعوري على مدّ يده إلى ظلمة العدم، وسحب أيّ شيء مما ابتلع.. الجرائد!.. نعم، إنها في طريقي(وطريقنا واحد!).. أجول بعينيّ فيها دون أن أراها.. أرفع رأسي.. آه كم شوّه منظرك هذا ماشية راقصة نقاء روحك في روح خيالي.. خربشة طفل على إحدى روائع " بيكاسو ".. قبة الصخرة في إطار من أجسام نسائية عارية!!.. نعم.. هذا ما كنت أريد قوله منذ سنوات(أو شيء له مذاقه) وها أنت تجمعين شتات الصورة التي كانت متخفية في ملاجئ ذاكرتي وأنت تعيدين تمثيل دورك(لَكَم أخاف تمثيلك.. أخشى أن يبتلعني!).. إنك تعلنين قبل البدء: هذه مسرحية!.. لكن.. أهي تمثّل فعلا؟.. أم أنا الذي لم أعرف مكاني: أأنا على الخشبة أم بين الجمهور؟!(ولَكَم أخشى أن أظلمك).. يتّسع مجال نظري ليشمل جسدك بكامله، يبدو هاربا من عمره الذي خلّفه وراءه.. ابتلعت الثياب ذلك القدّ المتناسق والجسم الممتلئ(لعلها لذلك تريد أن تقول لي: إني كما عرفتني، لم أتغير.. تريد أن تلهيني عمّا ضمر.. فجعلت التراب يخاطب التراب!).. ما حسبتها يوما ممّن تمتصّهم الهموم..(ما أقسى قذارتك يا دنيا، حين يجد الجميل النقيّ فيك نفسه مضطرا لأن يشوّه جمال نقائه بقبحك؛ ليجد لنفسه مكانا قذرا فيك!).. يهزني شعور بالإشفاق والحزن(أخشى أن أكون قد ظلمتها).. يواجهني ذلك السؤال الكبير.. أتذكر ما قالته الأبراج في جريدة الأمس: " الحاسة السادسة تصدقك وتلتقي مع من كنت تفكر به، ولكن.. عليك تحديد ما تريد "(اعترف بأنك أنت الذي تمثّل الآن، فأين: " كذب المنجمون ولو صدقوا "؟.. ولكنك تصدّقهم؛ لأنهم صدقوا.. أليس كذلك؟.. وما قرأته في المجلة حول تكذيب العلم للتنجيم.. هل نسيته؟!.. أترى بأن إيمانك مجرد أنانية.. كلمات تتشدق بها ما دام الأمر لا يعنيك.. ولا تعي دلالاتها لأن أوتار قلبك لم تداعَب، حتى إذا وجدت نفسك في مواجهتها، نكصت، وغلّفت الموقف بأعذار قبيحة.. أحسستَ بثقل الكلمة.. أترى بأنها تحتاج إلى عناق قوي قوي.. حتى تنفذ من مسام جلدك وتسكن بين ضلوعك؟!).
" عليك تحديد ما تريد ".. ما أريد؟.. ما أريد منها فعلا.. بعيدا عن الأبراج الرملية؟.. سؤال كبير، وجاد.. وأهم من ذلك أنه يريدك أن تحدد كيف تفوز بلوحة قبة الصخرة دون إطارها.. لذاتها، لا لإطارها!.. يعيدني السؤال إلى ما كان صامتا في ظلام العدم.. أتذكر بأنني الآن أقصر من أن أبلغ اللوحة.. تصفعني الشمس بحرارتها اللافحة بكل جرأة.. يعود كل شيء: الصخب، الناس، المسافات، الظل(أبحث عنه لأحتمي به لحظات أنسى أثناءها حرارة الشمس، وأتهيأ لصفعة أخرى)، البيوت، المحلات، الأرصفة، المياه القذرة الجارية والراكدة، يعود الطفل لمرافقتك.. شيء واحد تغيّر، لقد تحطمت المسافة بيني وبينك، ورميت كل شيء(حتى جسمي) بعيدا عنا.. أريد قطع الطريق إلى الرصيف الآخر(حيث أنت!) قبل وصولي المكان الذي تعودت منه فعل ذلك، قرب مدخل محطة الحافلات.. أريد التأكد من وجودك، وتأكيد وجودي لك.. ألمحك، فأقطعه بهدوء مصطنع.. أنت الآن تسيرين خلفي.. أشعر بالأسوار التي بدأت تعلو بيننا: المسافة، الناس، المحلات، الصخب... أنعطف يمينا، أسترق نظرة متعجلة.. أنت تواصلين سيرك.. افترقنا؟!.. يتوقف كل شيء، كل شيء: الحركة، الصوت، الزمن)هل أفزعتك هذه الحقيقة المفاجئة أنت أيضا، أم...؟!)
أجد نفسي داخل دار البريد دون أن أعرف لماذا..أه.. هو ذا أحد زملائي في العمل غارقا وسط كمّ من الوثائق والأوراق المختلفة الأشكال والألوان، أراه " سيزيف " حاملا صخرته في آخر النفق المظلم المسدود الذي دخلته مرغما، دون وعي.. متى يقتنع بأن هذه الملفات التي لا يمل من جمعها وإرسالها في كل الاتجاهات، لن يستفيد منها غير شيء واحد: أن يضطر لشراء حذاء جديد بمال كان المفروض أن يذهب طعاما إلى الأفواه الجائعة في بيته!.. كم مرة قلت له بأنها مجرد خيط من دخان يتشبث به الطيبون المخدوعون، وما أكثرهم في بلدي!، وبأن المصالح تُقضى بأساليب أخرى، لا نقدر عليها نحن، بل وتأباها نفوسنا..
طيفك يلحّ عليّ من آخر النفق أن أخرق السد وألحق به.. أنا الآن طيف يمكنه خرق السدود!.. أقول لـ" عبد الرحمن " زميلي وهو مقبل نحوي بعد أن تخلص مما كان بين يديه، قاصدا إخفاء القلق والاضطراب اللذين يكاد ينطق كلّ شيء فيّ بهما: " ما أشد عنادك!". فيردّ وقد فهم قصدي:" يا أخي دعنا نحلم قبل أن تُصادر منا حتى الأحلام، فهي كل ما بقي لنا ". أسأله: أين؟ ". –" إلى البيت "(كعادته)!.. ويتحرك مقتفيا أثرك (لا.. هذا معناه أنني لن أدركها، يجب أن أختصر الطريق لألاقيها بشارع المحكمة).." لا يزال الوقت مبكرا، لنتجول قليلا" – " لا بأس " يجيب عبد الرحمن.. نسير بخطوات كخطوات سلحفاة، أو كأن الأرض تفر من أمامنا، لكنه يفضحني بكلمة مفاجئة: " هل تطارد شيئا؟!".. أجيبه بارتباك لم تلحظه طيبة قلبه إجابة متهم يثبت على نفسه التهمة:" وما عساني أطارد يا رجل!.. أنت تعلم بأنها طريقة سيري في كل الأحوال ". أصل شارع المحكمة.. القمر الذي كنت متلهفا إلى بزوغه لكي يخرجني من الظلمة المقيتة القاتلة التي أنا فيها، لم يبزغ.. آه.. من يعرف أن التأخر بدقيقتين أو بشارع يمكن أن يعيد رسم لوحة الحياة بألوان أخرى.. أقف غير مصدّق، أمسح الشارع من أوله إلى آخره لعلي أعثر على شيء في اللاشيء.. الناس، الطرقات، الصخب، الشمس بحرارتها الأجرأ، الظل، البيوت، المحلات،الأرصفة، هذا السائر إلى جنبي، جسدي.. كل شيء، كل شيء بعيد عني.. إلا طيفك، يتمدد مرة أخرى داخلي، وهو يضم قلبي الظمآن وحرقتي التي أطفئها وتلهبني.. " عبد الرحمان" ثاني أصدقائي الذين أزرع اليوم في عقولهم شوكتي استفهام وتعجب.. فها أنا أتركه دون تفسير ولا تبرير.. مجرد كلمة مقتضبة: " اعذرني، يجب أن أعود إلى البيت!".. وأستدير عائدا أدراجي تاركا إياه غارقا في حيرته، دون أن يستطيع قول شيء.. لعلي سأعتذر منه غدا وأجد مبررا أقنعه به.. سلامة قلوب أبناء الأحياء المنسية أجمل ما فيهم..
وتنتصب الحقيقة أمام عيني سافرة موجعة:" أنت لم تحدد بعد ما تريد".. يخرج من ركام البناء الذي تهدّم مارد يمنع أية شرنقة من احتوائي.. أراني وسط هالة ضبابية ينبثق منها شبح يتجه إليّ.. شيء في نفسي يقول أني أعرفه.. وقبل أن أتبينه يدمدم بصوت يصك سمعي بكلمات حادة لابن عطاء الله السكندري كنت قد قرأتها منذ زمن، وبقيت لغزا يدور في عقلي، وإذا بها تنفتح فجأة أمامي، فتدمي قلبي، وتنغرس كالشوك في عقلي: " لا ترحل من كون إلى كون فتكون كحمار الرّحى، المكان الذي ارتحل إليه هو الذي بدأ منه، ولكن ارحل من الأكوان إلى المكوِّن.. إلى المكوِّن.. إلى المكوِّن.."
ـــــــــــــــــ
همس بينه وبين نفسه بكلمات لا تخلو من نرجسية: " لم أكن أظن بأنني قادر على أن أكتب شيئا بهذه القوة!"
كان القلم أثناء القراءة بين يديه.. غير أنه لم يشأ أن يناقض نفسه، أو لعله لم يعثر على مهاجرين غير شرعيين!..
وضع بين يديه آخر ورقة.. كان أكثر من نصفها الأسفل فارغا.. وضع خطا صغيرا تحت آخر سطر، وكتب بعد لحظات تفكير رافقتها رعشة خفيفة سَرَت في جسمه:
" لا تسألي عما حدث بعد ذلك، فهو غير مهم.. المهم هو ما يحدث الآن.. ما أتمنى.. ما أريد أن يحدث.. لقد أصبحت روحا خطت أول خطوة في طريق رحلتها إلى المكوّن.. غير أن قدميّ لا بدّ لهما من ملامسة الأرض ككل الناس.. ولكي أشعر بالدفء والأمان أنا في حاجة دوما إلى أن أسمع وقع خطوات ترافقني متناغمة مع خطواتي، لنواصل بقية الرحلة معا بعيدا عن الراحلين من كون إلى كون، وعمن يلازمون مكانا واحدا لا يبرحونه.. وأظنني أسمع وقع هذه الخطوات يقترب مني.. أم أنّ سمعي يخدعني؟!.. "
وتوقف.. كان يعرف بأن ذكاءها تكفيه هذه الكلمات، ورغم ذلك سأل نفسه: " أيكفي هذا؟".. أعاد قراءة آخر ما كتب، ثم قال: " وضوحها لا يحتاج إلى ذكاء ". وتأكد لمرة أخيرة بأن لا شيء ينقص..وقّعها وأرّخها، ثم طوى جميع الأوراق بإتقان ووضعها في ظرف بني متوسط الحجم.. غلّقه، ولم يكتب على ظهره كلمة واحدة، فقد فكر في طريقة خاصة لإرساله!..
أطفأ النور.. اندسّ في فراشه، وسرعان ما غرق في نوم عميق على هدهدة الآمال الحلوة والأحلام الجميلة.. الحفلة بسيطة، لكنها رائعة.. أبوه وأمه غارقان في حديث تقطعه ضحكات مع والدي " كمال "، الذي يجلس إلى جانبه ولا يكف عن إحراجه.. على الأريكة المقابلة، تجلس أخت " كمال" متظاهرة بمحادثة أخيها الصغير "محمد".. ترفع بين الحين والآخر رأسها نحوه، فيرى ورودا غضّة تتفتّح في وجنتيها إذ تلتقي عيناه بعينيها الخضراوين، الواسعتين، الصافيتين، البريئتين، الجريئتين.. الحالمتين!...
انتهى