الزهر ينبت من جديد
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
فبعد سنين طويلة امتدت لعدة عقود
كان وما يزال يحبها
لم يترك قصيدة حب أو بيت غزل إلا انتحله وهو يتغزل فيها
قال :
ما وجدت زهر رمان إلا وقلت هذا لون شفتيها
ولا نرجس إلا ذكرتني بعينيها
ولا وردة جورية إلا قلت هو لون خديها
ولا لامست وجه ماء إلا قلت هذه رقتها
أعجزت موزارت وبتهوفن وتشيخوف وعباقرة العالم كلهم
فلم ينالوا ولو جزءا بسيطاً من رقة صوتها
تلك هي حبيبتي فيها كل ملامح حواء مجتمعة
أحببتها فأحبتني ضممتها لصدري فضمتني
في مجد اللقاء , مع رقة النسيم , مع إطلالة شمس البزوغ , مع زقزقة العصافير , ورقرقة الماء المتهادي في الجداول
هبت عاصفة
كانت أو لم تكن عاصفة
كانت أيادي وأصابع شكلها شكل أصابع إنسان , لكنها طويلة جداً , تنتهي بمخالب زرقاء صفراء تقشعر منها الأبدان
عيون كبيرة محمرة مزرقة تنطق بكل أنواع الشرور
من هول المنظر , من خطر المفاجأة , التصقا ببعض أكثر فأكثر
جسدين في جسد واحد , وروحين متعانقان
قرون طويلة مهتزة وجوه ممتقعة , أنياب صفراء تقطر دما
كانت الدماء تقطر من جسده , وثيابه الممزقة من أثر وفعل أشكال الشياطين بعدما فصلوهما عن بعض , أخذوها معهم بعيدا
يريد أن يرفع صوته لينقذها ولو بحشرجة تنطلق من بين شفتيه , يحاول مد يده لكنها عجزت عن الحركة , لعله أصبح طفلا يحبو فيقع ثم يقف فيسقط
وتمزقت روح الرجل , كما تمزقت ثيابه , وضعف قلبه بذهاب حبيبته
هو بعيداً عنها , هو يراها ولكن هل هي... هي حبيبته ؟!
يسأل نفسه
ما لذي يشدني إليها بعد ذلك ؟
أخذوها
لعلها أصبحت عاهرة , أو أنها باعت قلبها وروحها لكل جنس من الشرق والغرب
إنها بالتأكيد عا
لا... لا أبداً هي مغتصبة , لم تجرم أبداً , لم ترتكب فاحشة مطلقا
ولكن لم تجد من يحميها
أنا فعلت المستحيل
ولكن أهلها تعاونوا عليها أو أنهم لم يحافظوا على طهرها وعفافها
لم أجد من يقف محاميا ومدافعا عني وعن حبنا
فكان من بعيد يقف أخي وابني وابن عمي , يسمعون صراخنا , يعرفون أن دماؤنا تسيل
يعرفون مصيري ومصيرها
لم يفعلوا شيئا , لم يحركوا ساكنا , مع أنهم كلهم لهم نفس القصة ونفس المأساة
لقد أضعت حياتي كلها بالشعر والغزل والموسيقى والرجاء
وكنت كلما ..ندهت ....أو... استغثت ,كانت النتيجة :
عاهرة بين كل الصنوف
في هذه الأثناء
وفي الظلام الذي يحيطه وبداخله ومنذ عقود
فجأة يعلو صوت قادم من بعيد , يقترب الصوت أكثر فأكثر ,يرافق الصوت هالة مضاءة متوهجة لتزداد انتشارا , إنها تبدد الظلام من حوله , إن نورها يصل لداخله , يشعره بقوة وعزيمة بدأت تنتشر بجسمه , والتي كان قد فقدها منذ زمن بعيد
إنه لن يبق في الظلام بعد الآن , سيخرج من جلبابه العتيق , سيلقي بكل أشعاره في قلبه مدفونة حتى يخلص الحبيبة , ويلقيها على مسامعها , هي له وحده فقط
وبعد صراع مرير مع أمثاله , وخطب حماسية وخطط عسكرية , واقتصادية وسياسية
لم يهتم بعزائم ولا طعام ولا ترحيب
لم يهتم بمبادرات ولا برأي مخالف ولا بوسيلة أو طريقة إلا :
لو لبس العالم ثوباً كثوبي , وعاش في ظلام بداخله وحوله , ولفظ قوته ليجعلها متقوقعة في ركن اليأس البعيد ,ورمى عفة الحبيبة بين أمثال الشياطين , لكانت كل امرأة في العالم كحبيبتي , التي صارت مشاعا يرتع فيها الشرق والغرب والجنوب والشمال
وتشابكت بعض الأيادي , ونطقت بنفس الكلمات ,
بدأت الحبيبة تسمع كلمات لم تعتد عليها منذ سنين طويلة , إنها تحلم أو أنها تتخيل , لا... أبداً ....
تقول
إنها وقع خطوات رجال أشداء , تقترب الأصوات منها أكثر فأكثر
هل هي أصوات رعد هادر ؟
تسكت لحظة قصيرة , تصغي بسمعها , كانت تقف أمام المرآة , مع كل صوت ووقع خطوة تتفتح زهرة حمراء في خدودها الشاحبة الصفراء
بدأ قلبها يدق بسرعة كبيرة , لا.... إنها ليست دقات قلبها
إنها أصوات رجال إنني أسمع هديرا جارف , ماذا تفعل تقول لنفسها
تخرج مسرعة لم تجد في طريقها أحدا إلا:
أنياب صفراء ملقاة وقرون ممزقة , وكلاب تنهش في أجساد أصحابها
لقد عرفت ما يجري ,
عرفت لماذا زهر الرمان عاد لشفتيها
عرفت لماذا الورد الجوري الأحمر نبت على خديها
إنها تشعر بحرارة خفيفة تلامس جسدها, لم تشعر بمثلها منذ زمن بعيد
إنه مغطى بثوب الجمال والحياء ويزينه كل أنواع اللآليء والمجوهرات
وعلى رأسها تاج الكبرياء