وما زال البحث مستمراً
وما زال البحث مستمراً...
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
انتهت الحصة الدراسية الأولى , وأعقبتها الثانية , الثانية كانت شاغرة بسبب غياب معلم المادة المقررة , وعندما بلغ الطلاب بغياب المعلم , تركوا القاعة وخرجوا جميعا للساحة , فمنهم من ذهب لقضاء حاجة معدية , أو شربة ماء , أو بعضهم كان يقرأ في كتاب , وآخرون يلعبون وبعضهم انطوى على همومه وواقعه فغاب عنه كل متع الشباب
وكانت هناك مجموعة متمايزة بينهم , مع قوة العلاقة التي تربطهم ببعض , معبرة عن صداقة عميقة نشأت بين أفراد هذه المجموعة
ومع تفوقهم في الدراسة ومنافسة بعضهم بعضاً إلا أن ذلك لم يولد الغيرة بينهم بقدر ما ولد التنافس والتعاون بين بعضهم , وكانت محصلة ذلك حب كبير قوي تشابكت حباله بين الأفراد كافة
ويتنافسون في المقالب المرحة على بعضهم بعضاً , وكانت النتيجة اليوم على أحدهم , في كتاب كان يحمله بيده , اختطفه أحدهم , وطلب استرجاعه لكنه أعطاه لصديق آخر لتبدأ اللعبة المرهقة لصاحب الكتاب في الجري وراء الكتاب وكلما اقترب من الذي معه الكتاب كان يرميه لآخر . وبعد أن نال منه اليأس مأخذا والتعب حل بجسمه كاد أن يستسلم لليأس , ولكن عند هذه اللحظة استطاع أن يلتقط الكتاب من رمية خاطئة قام فيها أحد أصدقائه
أراد أن يهرب بالكتاب بعيداً عنهم لكنهم أحاطوا فيه وأقنعوه أن اللعبة قد انتهت ,وافترشوا الأرض متجمعين وهم يلهثون ويضحكون
فبعد دقائق معدودة أخرج أحدهم ورقة , وبدأ يقرأ فيها بصوت عال ليثير انتباه الآخرين , هذه الورقة كانت قد سقطت من الكتاب فيها بعض التعليقات , كانت مكتوبة بيد صاحبه يتساءل فيها عن معنى بعض العبارات والتي وردت في الكتاب
عنوان الكتاب
الـــــعَـــــرّاب
إنها رواية تتحدث عن عائلات المافيا وأعمالها وجرائمها
وتحتها خط متمايز جدا وبارز كتب بالخط العريض واللون الأحمر منتهياً بعلامات تعجب واستفهام
فهو سؤال محير
يقول أحمد وبصوت موجه للجميع اسمعوا لهذا السؤال الغريب والذي حير عقل أخينا محمد , هبت عاصفة من الضحك والقهقهات من أفواه الجميع , بعد إلقاء السؤال على آذان الجميع , وارتسمت على الوجوه بعدها علامات استفهام كبيرة , حول حيرة محمد في عدم تمكنه من الإجابة .
مع أنه بديهي تماما . يستطيع أي شخص الإجابة عليه , أكان صغيرا أم كبيرا عاقلا أو مجنونا
لم يكن محمد قليل العقل أو عنده مسحة من جنون , أو كان شابا خياليا مثاليا (طوباويا) , وإنما كان طالبا عاقلاً ذكيا يفرض نفسه على من حوله برجاحة عقله وسعة أفقه وتفوقه , لذلك طلب من الجميع الهدوء , وهدأهم بكلامه المعقول والمعبر عن داخله وقال :
مع أن السؤال يثير الضحك والاستهزاء للوهلة الأولى , ولكن لو أخذنا السؤال وتم تطبيقه على الواقع الذي نعيشه في وطننا الممتد من المحيط إلى الخليج , متجاوزا حدود المنطقة ليشمل واقع الأمة الإسلامية كلها
ألا تجدون معي أن الجواب عليه يحتاج وقتا طويلاً وزمناً أطول للبحث والتقصي , والتعب المرهق والغور في الأسباب والمسببات , وهل يمكن لأحدكم أو لجمعكم أو أبدأ بنفسي للبحث عن ضالتي تلك ؟
بحثت كثيرا وفتشت في كل زاوية علم قديمها وحديثها , وعند كل القادة , وجماهير الشعب العامة والخاصة , وكان بحثي يشمل قرونا مجتمعة ومنفردة , وعقود متعددة , ومع ذلك لم أجد ما أبحث عنه , ولم يسعفني عقلي في الحصول على الجواب المحير هذا
ومن شدة تعبي وإرهاقي أكاد ألعن اللحظة التي بدأت فيها بقراءة هذا الكتاب اللعين والذي .... والذي أوصلني لحالة الإرهاق الذهني والنفسي , المتوازي مع القلق والخوف على نفسي وعلى من حولي وعلى الأمة التي انتمي إليها كذلك
و بمرحكم معي والمقلب الذي أوقعتموني فيه , وأرهقتموني من شدة الجري وراءكم , ولكن الحمد لله كانت نتيجته طيبة في وقوع تعليقاتي وسؤالي على الورقة الخاصة والتي كانت داخل الكتاب , ووقوعها بيد أحمد , كانت كاسرة لحياء أشعر فيه بداخلي من عرضه عليكم لسخريتكم المعهودة , وقد كان الإرهاق الذي أصابكم كافيا لوقف تعليقاتكم المخجلة في بعض الأحيان
وهرع الطلاب بعد سماع الجرس بدء الحصة الثالثة , بالعودة إلى الصف واستقبال الحياة بصيغتها المعهودة
تكسو الأرض حلة صفراء من تساقط أوراق الخريف في الحديقة العامة , والمقاعد الخشبية تكاد تخلو إلا من بعض الرجال والنساء في خريفي العمر , وعلى إحداها يجلس رحل كبير طاعن في السن يمسك بيده عصا وظهره منحني للأمام , ولحية بيضاء خلا منها السواد وعلى رأسه قبعة سوداء تقيه برد الخريف , وحيدا تظهر على ملامحه هموم كثيرة تظهر ملامحها من الخطوط العميقة المحفورة في وجه الرجل
وهو في هذه الحالة من التفكير والشرود الذهني , يتقدم رجل يماثله في الملامح ويقاربه في العمر ويسلم عليه , فيرد عليه السلام ولم يلتفت إليه إلا بعد أن تأكد أن هذا الصوت كان سمعه منذ زمن بعيد
وقال له أنت أحمد؟ .... أكيد ....أنت أحمد
التفت الرجل إليه وقال أنا أحمد نعم ولكن أنت ؟؟؟!!!!!
أنت محمد أكيد
وحاولا النهوض بسرعة ليحتضنا بعض بقوة كما كان يحصل عند لقاؤهما في السابق , ولكن السنين كانت قد أبلت قوتهما فتعانقا وهما جالسين
وبعدها بدموع تتساقط على خديهما , وحوار بسيط جرى بينهما
لينطقا سوية :
ومازال البحث مستمرا........................