ثرثرة بين صديقين
د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري
كنت انظر إلى صديقي وهو يضحك عندما , عندما قال وأنا كذلك أيضاً
سكت فجأة وأطبق فمه , وتغير لون وجهه , وفجر عينيه ينظر لمكان ما , ولكن لم ترف رموشه وبقيت ثابتة
وبدأت أتحدث إليه ببعض الكلمات بصوت منخفض وابتسامة خفيفة ارتسمت على وجهي , ولكنني شعرت أنه لا يسمع كلامي ولا يعي ما حوله
وكزته فلم يتحرك , مررت أصابعي أمام عينيه لم يشعر بوجودهم , خفق قلبي ودب الخوف في نفسي , فقد افتكرت أنه من شدة الضحك , يمكن أن يكون قد وقف قلبه ومات
قمت من مكاني مسحت على وجهه , أحسست أن وجهه باردا , أمسكت ذراعه وتفحصت نبض شرايينه , هنا أحسست أن خوفي بدأ يقل رويدا
إن قلبه ينبض وصدره يرتفع ويهبط , فقلت الحمد لله لم يقع له مكروه , إنه شاردٌ بأحداث القصة بهمسة حب
رجعت لمكاني وندهت عليه مرة أخرى بصوت أعلى من السوابق نوعا ما , بحيث اخترقت صيحتي أذنيه ليعود لحال الوعي وكأنه كان صاحيا من تخدير عميق استمر عدة ساعات
فقال لي نعم يا صديقي العزيز
قلت له هل تريد الضحك مرة أخرى
قال لا
قلت له سأكمل القصة , وأتلوها على مسامعك ومسامع من حولنا , بعد أن بدأ الناس يتوافدون إلى المقهى , وستسمع نبراتها ممزوجة بمشاعري , لتخرج نغمات ناي حزين تصاحبها كلماتي ورقة مشاعري , لتخرج هالة تضيء ضوءاً خافتا حول قمر حزين يجلس هنا أمامك , فقد هبط من علوه وأحاط بجسدي وتقمص حزني العميق يا صديقي العزيز
مرت أيام طويلة , بعدما فارقتها بصحبة رجال أشداء , أحاطوني بكل عناية ورعاية وحنان , لقد أقفلوا عيني حتى لا تتعبا , وأغلقوا أذني حتى لا تسمعا شيئاً مزعجا ولا قرقعة لسلاح ,وأراحوا يدي ورجلي من الحركة
وكانت كل ليلة وكل وجبة فيها أنواع شتى من الطعام , فيها براميل المياه , والكهرباء وأنواع السياط المختلفة , ومع هذا كله ,لم يكن يحيرني أكثر من سؤال كان يتردد على مسامعي عندما يريدونني أن أسمع شيئا ما
منذ سنين طويلة , ومع وجودي في زنازين كثيرة فيها العلماء والمفكرون والصحفيون والفلاسفة ومن علية القوم وحتى من الحشاشين لم يستطع أحد أن يساعدني في إيجاد الجواب الشافي على سؤالهم المحير هذا
بعد أن التفتت علي ورأتني بين أيديهم , بين أيدي وأرجل أصحاب المسدسات , وتفلت وقالت سياسي ويحب؟؟؟؟!!!
حفرت في قلبي تلك الجملة حفرة عميقة , كانت أصعب إيلاما من كل الذي لاقاه جسدي وروحي من عذاب وحرمان , وكانت تشغلني عن كل عذاب , لتفوق كل عذابات وآلام جسدي الضعيف
وفي الظلام الممتد حولي , ومنفرداً وحيدا في زنزانتي , كنت أتجاوز ذلك القول وأنطلق مع حبي , ويسرح خيالي وأذهب معها في حديقة جمعتنا فيها ورودها , أو بستان من أشجار الفواكه الحمراء والصفراء والمخملية نقطف منها ثمرات تعبر عن الحب والمشاعر الرقيقة ,فقد أحببت في حياتي نوعين من ثمار الفاكهة , تزهو كل أنثى بلمسة سحرية من جمالهما هما الكرز والدراق , ونصعد مع بعض وأيدينا متشابكة ببعض سفوح أعلى الجبال ونستظل بشجرة سنديان , ومن البحر وعلى شاطئه مع استعداد الشمس للاغتسال في مياهه ليحل بعدها فجر جديد , ينسلخ رويدا عن الظلام الذي وارى الأرض أثناء اغتسال الشمس , لترسل من جديد أشعتها البيضاء , وتنثرها على ورود حمراء كانت قد التقطت خلسة قطرات من الندى لتختلط تلك الأشعة المنعكسة معي ومعها , وزقزقة عصافير الصباح , وصوت الناي المنبعث من بعيد
خرجت بعد سنين طويلة , نحيل الجسم منحني الظهر كث اللحية وفيها بياض الثلج طغى عليها كلها , والثياب ممزقة لا تكاد تغطي ثلث جسدي
وبحثت عن بيتي فلم أجد له أثرا , فالأماكن قد تغيرت , وكان يوجد أبراج بجانب بيتي العتيق , فلم أجد تلك البنايات والتي كانت تستقبل الغيوم الحاملة بالخير للجميع مسلمة عليها ومرحبة بقدومها
هناك كانت حديقة فيها كل ألوان الحب وهنا كان الأحباب يتهامسون , ولكن كان المكان خالياً من الحياة ومن الألوان يطغى عليه لون رمادي فقط لا غير
بحثت هنا وهناك وفي كل مكان , وفتشت في كل زاوية ومكان كنت أشعر فيه بمشاعر رقيقة مع الحبيبة , فلم أجد من ذلك المكان ما يحرك مشاعري ولو بهمسة حب ارتسمت في أعماق نفسي, في رقة الماء بلمسها تحلم بالحب والحياة
بدأ الجوع يتسلل لمعدتي رويداً رويدا , ولكن لم أجد أحداً من أهلي ومعارفي , ووجوه الناس متغيرة عن سابق عهدها والألفاظ مختلفة , فوجدت أحد المطاعم ولما رآني صاحب المطعم , تحرك باتجاهي غاضبا متموج في حركته من ثقل كرشه يتماثل مع حركات البعير
وحالي الميئوس منه من الجوع والحرمان والتشرد , بدت أمامي صورة حبيبتي , في تاجها المرصع بالذهب والياقوت والماس , ومن حولها الخدم والحشم , وأن جمالها الذي يعجز اللسان عن وصفه وحلاوتها وخفة دمها , تجعلها مطمعاً لكل عنوان , عنوان الأغنياء في بلاد الفقراء
فتمنيت في نفسي أمنية , لعلي أراها الآن , فمن المستحيل أن أكون قد اندثرت من قلبها , ومن الممكن حقا أنها ستعتذر عن فعلتها لي , أو على الأقل تحن على رجل مسكين مثلي وتطعمه وتكسيه وترشده لطريق يحيا فيه
وتحركت ببطء شديد , باتجاه حاوية صغيرة مركونة على جانب الطريق , لعلي أجد فيها شيئاً , ينقذني من آلام الجوع الذي يعصر معدتي الصغيرة
وعندما أصبحت قريباً منها ترددت قليلاً , عندما رأيت امرأة تبحث فيها , ولكن آلام الجوع شدني للذهاب ومشاركة تلك المرأة في بحثها
أخرجت رأسها من الحاوية بعد سماع صوتي لترد علي السلام , وكانت الصدمة , أو الصاعقة التي وقعت علي , من منظر تبدل أمامي بسرعة كبيرة , من علامة مرسومة على طرف خدها تلك الشامة التي لا يمكن أن تغيب عن ذاكرتي وتحملها كل مشاعري
إنها هي حبيبتي
إنها تلك التي وهبتها كل حياتي ونسيت كل امرأة في الدنيا باحثا عنها
ولكنها الآن تقف أمامي
مبتورة ساقها , ومتفحم طرف وجهها , وأصابعها قليلة , وثيابها لم تكن أفضل حال من ثيابي
تقدمت إليها ملامساً ما تبقى من جسدها , مبتسماً لها فبادرتني بنفس الابتسامة ,
وقالت هو أنت ؟ ثم أردفت وقالت:
لست أنت إلا , إلا نسمة صباح في ربيع مشمس لفحت وجهي منذ زمن بعيد , وما زلت أحلم فيها , وحبي لتلك النسمة جعلني على هذه الحال التي تراني فيها
ومن شدة فرحي بما قالت نزعت ثيابي , وتركت على جسدي ورقة التوت , ووضعتها على جسد حبيبتي
وقلت لها بصوت عال جدا
لقد عرفت الجواب
قالت وما السؤال
قلت لها لقد عرفت جواب السؤال , بعدما عجزت وعجز عنه كل العلماء
وأردف صديقي قائلاً عابسا مقطب حاجبيه
صحيح , وما هو السؤال ؟