طعمها بالحرام أطيب

م. محمد حسن فقيه

[email protected]

سعيد شاب مربوع القامة ، ضخم الهامة ، مفلطح الجبهة ، مفتول العضلات ، عريض الكتفين ، بارز الصدر ، فيه قوة وشكيمة ، لو انقض على جدار لحطمه ، أو على وحش لمزقه ! .

لكنه شاب خامل ، عاطل عن العمل ، كسائر الشباب التائهين الضائعين ، يعيش في هذه الحياة عبثا ، لا يفكر بغير شهواته ، كأنه لا يعيش لغير نهمة بطنه وشهوة فرجه ، وسعادة نفسه ، وتغييب عقله الفارغ من شرب أو زرق أو شم ، وذلك بحسب إمكانيات جيبه ، فهو يقضي أوقات فراغه وما أكثرها ! متسكعا بين المقاهي والحانات ، أو النوادي والكازينوهات .

ساذج ومتواضع التفكير ، فإمكانياته العقلية تتناسب عكسا مع بنيته الجسدية وإمكانياته العضلية ، لم يفكر يوما أن يتعلم مهنة كأمثاله من الشباب الآخرين الذين يشعرون بشيء من المسؤولية ، وعلام يتعب نفسه ، ويكد جسده ، ويرهق عضلاته ؟ !

 مادام قادرا على تحصيل لقمته وإرواء شهواته وإشباع غرائزه بطريقة أسهل وأيسر .

 لا يوجد في قاموسه كلمة حرام ، وجميع أموال الآخرين وأملاكهم مباحة له وحلالا عليه ، فهو قد احترف السرقة من نعومة أظفاره ، بل قد ورثها من أخيه الأكبر والذي بدوره قٌد ورثها عن أبيه عن جده كابرا عن كابر ، وهو لص جريء وإن لم يك ظريفا ! فكثيرا ما وقع بيد العدالة بعد أن تنكشف سرقته ، أو يمسك متلبسا بجريمته ، ليقضي فيها محكوميته وينال نصيبه من السجن والذل بما اقترفت يداه .

يقوم سعيد برصد أهدافه نهارا ، وينقض عليها ليلا ، فإذا نجحت خطته ، وسلمت عمليته ، وحقق مقصده ، ونال مراده ، ذهب بغنائمه سريعا إلى سوق (الحرامية ) كما يسميه العامة ، فيسوقه لأصحاب المحلات من أسياده بربع الثمن ، بل وربما بعشره ليستلم تلك الأموال ويمضي بها إلى المقاهي والحانات ، أو النوادي الليلية "والكازينوهات" إن كانت العملية مجزية ! .

ورغم أ ن سعيد قد ناهز الثلاثين فمازال شابا عزبا يسكن في بيت والده ، وهي دار عربية قديمة تقع على الشارع العام داخل سوق المدينة القديم ، وأمام مسكنه في نفس الشارع على مسافة قريبة من الجهة المقابلة يقع محل أبي اسماعيل" الخضرجي " .

خرج سعيد من السجن منذ ثلاثة أيام بعد آخر محكومية قضاها لمدة ستة أشهرعلى سرقته الأخيرة لتلفزيون من محل للأدوات الكهربائية في وسط السوق ، بعد إن انكشف أمره ، ولكن الجديد في الأمر بعد هذه المرة أنه قد أعلن توبته أمام أهله وجيرانه وأبناء الحي ، بل وطلب من جارهم الخضرجي أبي اسماعيل أن يعمل عنده ، أو يجد له عملا مناسبا عند معارفه ! .

اعتذر له العم أبو اسماعيل بلطف ، لعدم حاجته إلى أي عامل في الوقت الحاضر ولكنه وعده أن يبحث له عن عمل عند معارفه وأصحابه ، وشجعه أبو اسماعيل على هذه الخطوة الإيجابية المتقدمة ، فلعله العمل الصائب الوحيد الذي يقوم به من سنوات ، فلقد أصبح رجلا ! وعليه أن يبحث عن عمل شريف يعينه على تحصيل لقمة عيشه ، بكد يديه وعرق جبينه ، والتفكير ببناء مستقبله ، فلا بد أن يفكر في عروس تملأ عليه فراغه وتسعده قبل أن يفوته قطار العمر، لتملأ له البيت أولاد ا ، فهم قرة العين ومهجة القلب ، وبهجة الحياة الدنيا وزينتها .

وصلت سيارة البطيخ من مزرعة القرية المجاورة إلى محل الخضرجي أبي اسماعيل ، فرآها فرصة مناسبة ليدعو سعيدا ليساعده في تنزيل حمولتها ، فتكون له عونا وتشجيعا عمليا لتغيير نهجه القديم وطريقه المنحرف السابق ، وتطليق تلك المهنة المشينة ، ولما أرسل له "صبيه" الذي يعمل عنده ، لبى سعيد النداء وحضر إلى أبي اسماعيل مسرعا ليجرب حظه في أول لقمة حلال يريد أن يحصل عليها ليجرب طعمها .

وسعيد لا تنقصه القوة العضلية والبنية الجسدية في ذلك ، وإنما تنقصه قوة الإرادة وصدق العزيمة ، فجاهد نفسه ما استطاع ، وقام بتنزيل سيارة البطيخ مع الصبي الذي يعمل عند أبي اسماعيل ، وربما استغرق العمل معه ساعتين أو أكثر قليلا .

 ربت أبو اسماعيل على ظهره مشجعا وهو يقول : أرأيت إن العمل ليس صعبا ؟ وليس عارا ! بل هو عز وشرف لمن يعمل ، ثم أخرج ورقة نقدية من فئة الخمسمائة ليرة فنفحه إياها وهي تعادل أجر العامل ليوم كامل ، صمت سعيد ولم يعلق على ذلك ، فهو لم يعترض إلا أنه لم يرد بكلمة شكر واحدة لأبي اسماعيل ،

 ونظرات عدم الرضى بادية في عينيه والتململ والاضطراب في حركات يديه يفضحه ، وكيف يرضى بذلك وهو بنصف هذا المجهود كان يمكن أن يحصل على عشرة أضعاف هذا المبلغ ، من سرقة نفيسة يخطط لها وينفذها ؟ .  

أحس أبو اسماعيل بما يعتلج في صدر سعيد ويدور في ذهنه ، رغم أن المبلغ الذي نقده إياه يوازي أجرة عامل نشيط محترف ليوم كامل ، ناهيك عن أجرة الصبي الذي يعمل عنده لا يتعدى أجره اليومي كاملا نصف هذا المبلغ ، علما بأنه قد بذل مجهودا أكثر من سعيد في إنزال حمولة البطيخ من السيارة .

أشار أبو اسماعيل إلى سعيد مبتسما ليقترب منه ، ولما دنا منه تناول أبو اسماعيل بطيخة كبيرة وتقدم نحوه يناوله إياها ، لكن سعيد رفض أخذها بهزة خفيفة من رأسه ، ورغم محاولات أبي اسماعيل المتعددة وإلحاحه الشديد وتدخل جاره أبي أحمد ومحاولة إقناعه بأخذها هدية حلالا زلالا بطيب نفس إلى شخص له حق الجوار ، فإن سعيدا قد أصر على موقفه رافضا أخذها ، كلاما واحدا فصلا غير قابل للنقاش ، مما حدا بأبي اسماعيل مضصرا إلى إعادتها إلى الكومة مرة ثانية بعد أن يئس في إقناعه ، وهو يقول إن كان هذا الذي يرضيك يا سعيد فلا بأس بذلك .

دلف أبو اسماعيل داخل المحل يرتب بعض الفواكه والخضار وترك سعيدا واقفا عند الباب ساهما وصامتا ، وبعد لحظات حانت منه التفاتة نحو الباب فلم يجد سعيدا ، فاستغرب تحركه ، ودفعته غريزة الفضول والإستطلاع ليرى أين ذهب سعيد ، وإن كان توقعه أنه ربما سيعود إلى بيته ليسعد مع نفسه ويختلي بها مع أول ثمرة مجهود حلال قام به ، وفعلا فقد صدق حدس أبي اسماعيل ولكن ليس كله !

لقد كان سعيد يتوجه إلى دارهم فعلا ، ولعله الأمر الوحيد الذي صدق فيه حدس أبي اسماعيل ، لكنه كان يحتضن بين يديه أكبر بطيخة انتقاها من الكومة ، ويسير بها متهاديا ببطء وهدوء مطمئنا لا يلتفت خلفه ! .

 ابتسم أبو اسماعيل ابتسامة عريضة ثم نادى جاره أبا أحمد وهو يشير بإتجاه سعيد قائلا : انظر كم حاولنا معه ورجوناه وألحينا عليه ليأخذ بطيخة بالحلال فأبى ورفض بشدة ، وها قد أخذها بالحرام ومضى بها دون أن يهتم لأحد ! .

علق أبو أحمد وهو يضحك مازحا : لعلها بالحرام أطيب طعما ، وأشد حمرة ، وأحلى مذاقا ! .

ثم التفت إلى إبي اسماعيل وهو يقول : إن حال سعيد كحال ذلك الرجل مع أمير المؤمنين رضي الله عنه

في قوله مما يؤثر عنه : " إني أردت أن أعطيه درهما حلالا فأبى أن يأخذه إلا حراما " .

 قال أبو اسماعيل : ما أصعب فطام الرضيع إذا كبر وشب عن الطوق ، ثم رفع يديه داعيا : اللهم سامحه ، وتب عليه ، وحبب إليه الحلال واكفه به ، وكره إليه الحرام وأبعده عنه ، وسدد خطاه ، واهده طريق الحق والصواب ، وأعنه على ذلك.