صراع مع القلب

أفنان شمس الدين ريحاوي

أصوات الخفقان.... الحركات المتراكضة... والضحكات المجلجلة... الأقدام الصغيرة تلوّن الخضار، والأيدي الناعمة ترسم الأحلام ، الصور الأخّاذة تتناثر بين الأزهار المتألقة وفي ظلال الأشجار الباسقة وعلى بساط سندسي ّممتد من الحشائش الخضراء ، الشمس الساطعة تداعب الوجوه الحنونة ، والهواء الربيعيّ العليل يحرك الأراجيح ، لينطلق الضحك من الأفواه والفرح من الأجسام و السعادة الوردية من العيون البريئة التي تضيىء أملاً تغمر الأيام ، الجمال والروعة تشع من الأرواح الطفولية ، والحب الطاهر يتطاير من القلوب الأبوية ، الفراشات البرّاقة تراقص الجدائل ، وغبار الطلع يقفز على الأنامل ، وأغنية الحياة الذهبية تعلن مهرجان نهار حافل.

 كنت أحملق في كل رقعة من رقاع الحديقة ، تجذبني صور الحياة الملونة ، فتتساقط قطرات الحب من قلبي ، الحب الكبير لهذه الحياة وهذه الطبيعة ، أولئك الأطفال وفي مقدمتهم براعمي الفضية التي تسابق الريح مصدرةً أجمل الألحان وأعذب الموسيقى ، أشعر بأني أطير من الفرح .... بل لقد طرت فعلاً ، ها هيا أجنحة السعادة تحملني ، أخطو... أركض... ثم أسابق الزمن وأكاد أسبقه... إلى حيث مشاعر العشق الأبدية والبراعم اللؤلؤية .

ــ أبي... أبي... تعال وألعب معي .

فأهتف بأعلى صوت بنبرات سعيدة :

ــ ها أنا قادم يا بنيّ .

 بدأت أحرك الأرجوحة التي يجلس عليها طفلي أحمد ، كانت تحلّق في الهواء برشاقة فتانة يتطاير معها شعره الحريريّ الأسود وأقدامه الصغيرة ، فيصدر أجمل النغمات الضاحكة ، وكلما ازددت له هزاً، ازداد هو ضحكاً ، وازددت أنا فرحاً... سروراً... بل عشقاً له ولأغاريده الكوكبية ورنّاته السماوية .

 أخذت الورود تتراقص على ألحانه ، والعصافير تغرّد على أصواته ، تلك الأصوات النديّة تنبعث من الثغر الأحمر الصغير ، وتلك اللآلئ البيضاوية تتبعثر من العيون الزرقاء ، أحسست بشعور لا يوصف ، إنني أملك العالم فعندي كنز لا يقدر، صورته البرّاقة تعجز العين عن وصفها ، فهو جميل بشكله... ألوانه... حركاته... بل وضحكاته .

 كنت غارقاً في بحر الفرح إلى أن سمعت صوت زوجتي وفاء تنادي :

ــ عصام... أحمد... تعالوا لنأكل الحلوى .

فهتف أحمد بنبرات مرحة :

ــ أبي... هيا نذهب إلى أمي .

لبّيت طلبه بأقصى سرعة أملكها ، وما أن أوقفت الأرجوحة حتى قفز منها عصفوري المعشوق ، أخذ يركض برشاقة ، وأنا ألحقه بطلاقة ، فتتعالى الأصوات وتنطلق الضحكات القوية فتزلزل الأجواء .

 على المقعد الخشبي تناولنا حبات الحلوى ، لم أشعر بطعمها ، لكني شعرت بقطرات دمي تتطاير من قلبي إلى السماء.... حباً.... عشقاً.... فرحاً.... وشكراً لله تعالى على كنزي الثمين.... زوجتي وفاء وابني أحمد وابنتي ريم .

 وتسافر الشمس بعد أن رسمت بأشعتها الذهبية البسمة على البراعم والأمل على المستقبل الباسم، ونقشت ذكريات مضيئة في القلوب الصغيرة ، يصعب إزالتها بممحاة الحياة ، ويستحيل نسيانها عند الأطفال ، كما نعود نحن إلى البيت بأرواح تخفق بحب الحياة .

 كنت أحمل صغيرتي ريم النائمة بين ذراعيّ، وكلما هبت نسمة ربيع طوّقتها بقوة أكبر خوفاً عليها من الطيران ، أمّا وفاء فقد كانت تمسك بيد أحمد المتعب وتجبره على السير بسرعة أكبر .

ــ على مهلك عليه يا وفاء ، لم نتأخر بعد ، مازال المغرب في أوله .

خاطبتها بعد التفاتي إليها ، فقد سبقتها بثلاثة أمتار.

 وأكملنا السير بعدها معاً ، ومع كل خطوة أخطوها يكبر قلبي بالحب ، وتتلألأ عيناي بالفرح ، وتحلم نفسي بالأمل ، وتلهث روحي بالشكر ، وكياني كله يألف كلمات عن السعادة الصادقة لم تعهدها كتب الأدب من قبل ، حتى اقتربنا من باب الحديقة .

 الصمت خيّم على المكان فجأة ، وتوقف كل شيء كان يتحرك في هذا الكون بما فيهم قلبي المزلزل ، توقفت عيناي حتى عن سكب الفرح ، وأخذت تحدق بمخلوق يبعد عنها مترين وتنظر إليه بذهول ، وجهاً لوجه أمام مخلوق يفترض أني أعرفه... بل أعرفه حق المعرفة ، لم أعد أرى جيداًً... أصبت بغشاوة من هول الصدمة المفاجئة والمشاعر المتلاطمة بعنف ، توهج وجهي احمراراً وتلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ، شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي... الدماء... سيالات الأعصاب... والأنفاس ....

 وشللت عن الحركة كدمية كهربائية فصل سلكها عن المكبس ، كادت تسقط ريم من ذراعيّ لولا أن أخذتها زوجتي مني لما لاحظته عليّ من توتر ، توقفت ساكناً أنظر إليه ، كان يجلس على مقعد خشبيّ جانب باب الحديقة ، انتبه لوجودي فوقف .... نظر إليّ..... نظرت إليه....... وتبادلنا النظرات...

 ومرت دقيقة بعد دقيقة والصمت والسكون على ماهو عليه ، لا يقطعه الا حفيف أوراق الشجر تحركها نسائم الربيع ، هو واقف يرمقني بنظرات لا أعرف معناها ، وأنا واقف كشجرة خريف قديمة تساقطت جميع أوراقها ، رأيت حزناً في عينيه وسمعت صوت بكائه المكتوم ، شعرت بأني أختنق ، ربما تعاطفاً معه ، حاولت أن اقترب..... لكنّ قدميّ خذلتني ، فقد بدأ قلبي بعرض شريط الذكريات الأسود ، وسرعان ما تصاعدت حمم البراكين وفجّرت جميع شراييني ، فأدرت ظهري وأمرت زوجتي بالسير في الاتجاه الآخر .

 أخطو بخطوات سريعة... أتخبط بقوة وعصبية معبراً عن قهري ، أبحث عن شيء لأفرّغ فيه غضبي ، عن كرة أركلها.... عن حجر ارميه... فقد بدأت الحرب.... وبدأ الصراع مع قلبي .

 ذاك الرجل الحزين مغيّر حالي ونازع فرحتي في هذا اليوم كان من أعز أصدقائي ، عشت معه عشرة أعوام في أحضان الأخوة الصادقة ، ولكنّ شياطين الإنس أبت الا أن تقطع حبال الود بيننا بمخالبها الحادة وأنيابها المفترسة ، وشياطين الجن أبت الا أن تزرع فينا بذور الشر ، وصرنا فريسة سهلة لسوء الظن ، وأصبحت قلوبنا جوفاء من كل معاني الصداقة الوفية بل وتحولت إلى اتهامات باطلة وأكاذيب نتنة .

 شعرت أنّ خلايا قلبي تتمزق خلية خلية ، بل وأنويتها تنشطر... وذراتها تتطاير في السماء من هول ما تذكرت ، وإن كنت أتظاهر بالصمود أمام زوجتي ، الا أنّ ما بداخلي كان يشتعل نيراناً أحرقت جسدي بأكمله وحولتني إلى رماد ......

ــ وفاء...... عودي إلى البيت مع الأطفال ، وأنا سأتبعك لاحقاً .

واستجابت لي زوجتي ، كنا في منتصف الطريق على حافة الرصيف ، وما إن رأيتها ابتعدت حتى رميت بجسدي المشتعل على حافة الرصيف ، جلست عليه وحيداً.... أحمل قلباً وحيداً أخذ يقرأ عليّ كتاب الذكريات ، شعرت بعتمة مفاجئة في عينيّ وبالشلل في أعصابي ، وضعت يدي على رأسي شاعراً بصداع فظيع من هول ما تذكرت ، وانتهى الأمر بدموع ترقرقت في عينيّ ، مسحتها على الحال خوفاً أن يراها أحد .

 ساد السكون لبعض الوقت ، لا أعرف لماذا تذكرت فترة عصيبة في حياتي ، مررت وقتها بضائقة مالية وكان هو أول المساعدين فأخرجني من ضائقتي ، أشعر أن طبقة سميكة من الثلج تصب على قلبي وتخمد نيرانه ، أتنفس بعمق وأخرج تنهيدات متتالية علها تخرج الهواء الراكد في صدري ، أشعر بارتياح مكنّي من النهوض على ساقيّ مرة ثانية .

 أقف سائلاً نفسي .... هل أعود...؟؟ أم أكمل طريقي إلى بيتي...؟؟ هل أبدأ صفحة جديدة معه وأنسى ما حصل...؟؟ أم أنسى أنّني رأيته اليوم...؟؟ لكنّي رأيت الحزن في عينيه..... لقد كان حزيناً... كان وحيداً... ربما يحتاج لمساعدة... ربما عليّ مساعدته... ربما كان ينتظرني... لماذا لا أعود...؟!! ألم يساعدني عندما أحتجته ..!!!

 أهز رأسي نفياً... أصرخ في نفسي... لا...لا...لا... لن أعود... وكيف أعود وقد كذبني وصدّق الشياطين..؟!! كيف أعود وقد رماني بأسهم الاتهامات الباطلة ثاقباً بها قلبي ومبعثراً بها دمائي ونازعاً بها روحي ..؟!!

 لكنّي سمعت صوتاً حنوناً داخلي ، همس يذكّرني بمواقفه النبيلة معي ، كرمه... عطاءه... كلماته.. أذكر أنني في يوم من الأيام تعاهدت معه على الوفاء ، كيف أخلف عهدي..؟؟ وبأي وجه ألقى ربي يوم الحساب..؟؟ أصرخ بأعلى صوت...... بل سأعود .

 التفت الناس حولي ينظرون إليّ بتعجب ، لم أكترث بهم ، بل أطلقت ساقيّ للريح ، أركض وأركض وأركض... أخاطب نفسي... سأعود من أجل عهد الصداقة الذي بيننا... سأعود من أجل الوفاء... سأعود من أجل الإنسانية... سأعود من أجل سماحة الصدر... سأعود من أجل المعاني السامية... سأعود من أجل أحضان الأخوة التي عشتها معه عشرة أعوام .

 أصل أخيراً... أدخل الحديقة وتطير عيناي بسرعة إلى مقعد صديقي ، لكنّه.... لكنّه كان فارغاً ، لا يحمل غير أوراق شجر يابسة ، وسرعان ما تنحط معنوياتي وتدفن في لب الأرض .

 بخطوات بطيئة خرساء عن أي كلمة أو إشارة اقترب من المقعد ، أتحسسه... ألمسه بأصابعي .... أشعر بمشاعر شتى تطعنني بسكاكينها الحادة ، مشاعر أعجز عن وصفها...................

أمسك ورقة شجر من تلك التي كانت مرمية على المقعد... أتأملها بعمق... أقبض عليها بقوة القهر التي تسكنني ، ثم أرمي فتاتها في الهواء ، فيتناثر معلناً نهاية القصة ، اطلق معه ضحكة عالية في الهواء .

 لم يكن لضحكتي تلك أي داعٍ لأن تولد وسط مجتمع الدموع الحبيسة في قلبي ، وسرعان ما لقت حتفها بغزو دمعتان اثنتان سالتا من عينيّ ، همست في نفسي .................................................

الآن عرفت سبب خصامنا... لو كنت تعرفني حق المعرفة لانتظرتني... فأنت لا تعرفني..!!!! (انتهت).