الكلاب السود
يوسف هداي الشمري
تحت زخات المطر المنهمر بغزارة ، و رعيد السماء الذي يصم الآذان . وفي عرض صحراء قفر تكاد تخلو من نباتات الأرض . لاحت تحت سنا البرق أجساد لكلاب تتجمع للحظات ثم تتبعثر ، لتلتئم من جديد في جوقة واحدة . كانت أصواتها تشق صمت الصحراء في محاكاة لهدير الرعد وفحيح الريح المزمهرة .
ومع كل نباح يصدر منها يأتي الرد أشبه بالصدى من كلاب أخرى تفرقت في تخوم الصحراء . ولا تلبث هذه الأصوات البعيدة أن تقترب رويدا لتنضم إلى رفيقاتها معلنة زيادة جديدة في عديدها .
ومع إطلالة الفجر ، وبعد أن تبددت سدف الليل المتراكمة بصباح اختبأت شمسه تحت كتل من غيوم كثيفة ، لم تزل ترشقها بوابل أمطارها .
وكأن الكلاب استبد بها الجنون . راحت تعدو في اتجاه واحد لا تكاد عنه تحيد ، وفي عيونها وميض مستعر . أخذ عددها يزداد باضطراد . ومع كل ميل تقطعه تنضم إليها أجواق جديدة . لا شيء يدلها على بعضها البعض سوى الغريزة .
انطلقت في سرعة مجنونة ، حافرة من تحتها الأرض ، كأنها أسهم قدت من لهيب . كان لصوت أقدامها قرقعة وهي تدب على الأرض بقسوة تطايرت لها الحصى وانبعجت الرمال المشبعة بماء المطر .
* * * * * * * *
في زحمة السوق بساعة الذروة ، حيث يكتظ بالمشترين من أبناء المدينة أو الوافدين عليها من الأطراف . ومع علو صخب الباعة وهم يعلنون عن بضائعهم مستخدمين شتى الأساليب . وعلى حين غرة . . .
كلاب تربو على المئات بل الآلاف ، متلفعة بشعرها الأسود المغسول . لا أحد يعلم من أين جاءت أو كيف تجمعت بهذه الأعداد ، تدهم السوق بنهم مسعور لكل لحم بشري .
تنقض بوحشية على الآدميين . تبقر البطون بمخالبها الناصلة . تغرس أنيابها المشحوذة في السيقان . تطيح بالرجال أرضا . تفترسهم بقرم عجيب . قتل الكثير وفر الباقون .
تنتقل بسرعة إلى بقية الأحياء . تهجم على الكتل البشرية أثناء خروجها من أعمالهم . تخضب الصغار بدمهم . خرجت أمعائهم جراء النهش . نحرت النساء من أعناقها . ثمة امرأة حامل افترست هي وجنينها الذي اكتمل في أحشائها .
لم توفر الكلاب أحدا .
توجهت نحو مركز الشرطة . . ومع إطلاق النار ، وتحت وابل الرصاص ، تساقط قسم منها فيما وصلت البقية للداخل ، لتأتي على رجال الحرس فتكا وتمزيقا . . .
الكلاب تنتشر في أنحاء المدينة . تجوبها طولا وعرضا فعي عملية بحث عن فرائس جدد . ومعلنة سيطرتها الكاملة على المكان . . .
غلقت الأبواب بالمتاريس والأقفال . وضع الأهالي قطع الأثاث الكبيرة خلفها زيادة في الحيطة والحذر . طفقوا يرقبون حركتها من على الأسطح أو من خلال خصاص النوافذ .
يمر اليوم كأنه الدهر . ومع انتشار العتمة . . تكفهر السماء من جديد . وتدلهم غيومها تارة أخرى . . تزخ مطرها زخا . هدير الرعد يمزق سكون الكائنات .
العواء . . العواء الذي لا يكف عن التوقف ، يبدد غياهب الليل البهيم . لا يكاد ينقطع قليلا حتى يعود كرة أخرى ، أقوى وأطول من سابقه .
الجنون يركبها . تعدو بسرعة رهيبة . تتجمع في مكان واحد . تغادر المدينة بعد أن تركتها شبه مهجورة . تنطلق كالسهام . تشق طريقها كالبرق ، تسبقها مخالبها المشرعة كالسكاكين ، وتتردد في أفواهها زمجرة شرسة .
العالم يضج بما يحدث . البعثات الدبلوماسية تغادر البلد . . الحكومة ، الوزراء ، أعضاء البرلمان ، المراسلون . الكل يطلق ساقه للريح هربا من الطوفان الأسود . اللاجئون بالملايين على حدود دول الجوار . منظمات الإغاثة تعلن النفير العام . . .
الكلاب السود تحتل البلد من أقصاه إلى أقصاه . الشرق الأوسط في خطر . العالم في طريقه إلى النهاية . صراع الحضارات ، ونزاع الإرادات . الخير والشر ، بل الرحمن والشيطان . من يأتي بميكال ليقيد إبليس ؟ . دموع المفجوعين تسيل نهارا . تنادي :
_ يا مخلص . . يا منقذ . يا قائم . أدركنا . .
العالم في حالة ترقب عما ستتمخض عنه الأحداث في الأيام القادمة ..