قطار النقل العجيب

من أم عجمان في الإمارات إلى سبته في المغرب

د.عبد الغني حمدو /باحث وأكاديمي سوري

[email protected]

[email protected]

هد التعب رجال الأمن والمسئولين والإداريين من العمل الشاق الذي صاحبهم خلال فترة الحملات الحامية الوطيس , بسبب هذه الرحلة العجيبة

وكان اليوم الأخير لترتاح حناجر المسئولين من الخطابات الرنانة , والكلمات الوطنية والحماسية من قبل الحكام المحليين في الدول العربية كافة , من ملوكها لأمرائها لرؤسائها ,

لقد كان بحق عرس قومي كبير شارك فيه الزعماء ودهاقنتهم وأعوانهم والمداهنين مع شعوبهم , مهرجان كبير سيبقى ذكرى في نفوس الجميع ستذكره الأجيال اللاحقة , لتضع البسمة على وجوه الجميع

القطار طويل جداً , مزين بأبهى زينة ,  عروس المكان الذي يحل فيه في مساره أو موقفه , عروس الشاطيء والبحر والصحراء والوادي والجبل

كيف لا وقد مدت إليه بركات الأنظمة عندنا

صفير القطار في المحطة يعلو كل صفير ولكن لم يكن مزعجا , تقول أنه صوت ربابة بأنامل يعقوب الموصلي , ممتزجة مع صوت عصافير الكناري والبلبل وضحكات أطفال لم يبلغوا الفطام بعد

في هذا الجو الشاعري الجميل والعزف المنفرد على العود , ومع صوت أم كلثوم , يتخذ كل مسافر مكانه في القطار مكان مريح واسع مزين ومزخرف كأنه عرش بلقيس , مع لمسات حديثة عصرية وإضافات أجهزة ألكترونية , وفي الوسط مضيفات من شرقية وغربية يتمايلن تمايل غصن الصفصاف مع نسمات هواء خفيفة , كأن المكان عاد في جماله لوادي إسماعيل الصفوي , وادي الجنة

وقبل تحرك القطار يدخل أمير البلاد بأبهى حلله وجماله الجذاب من الأصل , ويحيط فيه مجموعة من الحراس تراهم كأنهم لؤلؤاً منثورا, لن يسمح لأحد بالوقوف ليسلم عليه , من تواضعه العجيب , من إيمانه المتصاعد حتى السماء , ينحني أمام المسافر يسلم عليه ويقبل رأسه ويضع في يده ظرفاً مملوءً بالعملة الصعبة , ويقول له بصوت منخفض رقيق

لو كانت عيوننا تسعك لوضعناك فيها, فقلوبنا هي معك دائما فاذكرونا عند الأعزاء بالطيب والسلام , ورافقتكم السلامة ولا نريد منكم إلا الدعاء

فيرد عليه المسافر:

سأدعو عليك مادمت حياً , ووصيتي لأولادي ومن بعدي :

 يا أبنائي ودعنا الأمير ووضع يده في يدي غصباً , لا تقبلوا يدي لأن فيها أثر الأمير تحمل في أخاديدها بقايا منه, تبعدكم عن الحياة والحياة لا تعرفكم أبداً كما ترون حياتي , ويتمتم بكلمات قاسية يسمعها الأمير , ليرد عليها بابتسامة طفل رضيع

فسبحان الله أحسن الخالقين

وبعد مراسم الوداع , تنطلق أصوات المدفعية اثنين وعشرين طلقة معبرة عن قيمة المسافر الكريم والعزيز

وتتحرك عجلات القطار خفيفة ناعمة رقيقة كأنها تمشي على أسلاك قد صنعت من الحرير , ويقف على رصيف القطار الأمير والحواشي مودعين ومبتسمين

لوحات كبيرة وبالخط العريض مكتوب عليها  :

تكاليف الرحلة للشخص الواحد معتمدة من جامعة الدول العربية

1-   الطفل أو الطفلة العبقرية (النوابغ ) يدفع له عشرة ملايين دولار إذا كانت الرحلة ذهاب بدون عودة

2-   في حال العودة عليه أن يدفع أو تدفع عشرة أضعاف المبلغ مع الإعدام حتى الموت أو السجن المؤبد

3- العلماء من جميع الإختصاصات  لهم شيكات مفتوحة يحددون الرقم الذي يحتاجونه (شرط عدم الرجوع للوطن)

4-   ويلتحق بهم جميع النوابغ من الصناعيين والحرفيين وصاحبي المواهب الإنتاجية المفيدة

5- الضباط والجنود والوزراء والعمال والأميين عليهم أن يدفعوا عشرين ألف دولار قيمة التأشيرة وأجرة الطريق وتكاليف الطعام والشراب في القطار

6-   التوقيع :

بالإجماع أصحاب الفخامة والرئاسة والملوك العرب

وبدأ القطار ينساب رقيقا متهاديا يعبر الصحاري والجبال والوديان , وفي كل محطة يمر فيها والتي بدأها بمجلس التعاون الخليجي ثم اليمن وأطراف العراق وبلاد الشام ومنه لقارة إفريقا , مبتدأً بمصر أرض الكنانة والعلماء وليبيا والجزائر وتونس والصومال ومن قبلهم السودان وجيبوتي

ووقف القطار بنهاية رحلته العجيبة والطويلة , وحتى القطار كان يحسد نفسه وستبقى عنده ذكرى طيبة لن ينساها أبداً وسيفاخر على أقرانه دائماً ليقول:

لن يحصل شرف لقطار من بعدي أو من قبلي فكانت سفرتي العجيبة من خيرة الأبناء ,من أمة وصفها الله في كتابه العزيز(كنتم خير أمة أخرجت للناس ......)

وهبط المسافرون من القطار ليذهبوا لصالة ختم الجوازات , وبد لهم الأمر سهلا جدا مع كثرة العدد الذين هم فيه , اثنين وعشرين باباً , كل باب مخصص لدولة عربية معينة , وبدأ الركاب يدخلون من بالباب المخصص لهم , وما أن يدخل المسافر الباب حتى يخرج من الطرف الثاني , فيجد نفسه في مسرح روماني على الطراز الحديث

وعلى خشبة المسرح سبعة أعلام  وتحت كل علم يوجد لجنة تمثل البلد الذي يظلهم علمها , وعلى الجانب الآخر الرؤساء والملوك والأمراء العرب

وكل شخص منهم يمثل أبناء بلده الذين قدموا في القطار , وكل يعرض بضاعته على هؤلاء , مع ذكر المواصفات والميزات لبضاعته كسوق النخاسة مع فارق بسيط هنا نوعية السلعة التي يتم عرضها في هذا السوق العجيب

ويغلق السوق أبوابه وتذهب البضاعة لمن اشتراها ويعود الحكام العرب منهكين من هذا اليوم المرهق والشاق ولكنه كان يوما عظيماً عندهم ربحوا الكثير , وزاد عندهم الأمان وبيضوا بلادهم ونقوها من كل أثر قد يمت لبلادهم بتلويث البيئة ومن المصانع والمعامل , والمفكرين والعلماء والمزعجين لهم على الدوام

وبعد العشاء وعلى أنغام الموسيقى والرقصات الرشيقة في قاعة أمير المؤمنين في قصره العظيم , يقول  الملك أمير المؤمنين , إنني جداً سعيد بفكرتك أيها القائد والتي طرحتها أمامنا وتم تنفيذها  اليوم في أن ارتحنا وتخلصنا من تلك العقول والتي كانت تسبب لنا صداعاً دائما , فيكفينا نحن , الرعاع , وعندنا من يفكر نيابة عنا ويصنع لنا وأقدامنا فوق الجميع بالسمع والطاعة يا مولاي

واهتز الجميع طرباً وفرحا وغبطة بتحقيق الربح الكبير وهم على هذه الحالة وهم لا يصدقون أنفسهم من سعادتهم تلك , يعم المكان هدوء وتتلبد الوجوه وتسود , وتظهر الأفواه مفتوحة على آخرها كأنها كهوف مقابر الشياطين, والعيون محدقة على مكان واحد , والرعب قد ألم بالجميع من رؤية طفل وطفلة لم يبلغا الحلم بعد, وفي يد كل واحد منهما

كتاب ودفتر وقلم ويرددان بصوت واحد (إ قرأ باسم ربك الذي خلق)