عند الكعبة اهتديت

خالد البيطار

العودة إلى الفطرة أمر مشهود معروف، لكنها تحتاج إلى إزالة ما تراكم من العفن والحواجز والران. قد تحتاج إلى هزة عنيفة، وقد لا تحتاج إلا إلى ساعة من تأمل وتفكير وإعادة تقييم للحياة ـ بدايتها ونهايتها ـ ومقارنة بين الدين الحق وأبنائه وبين الأديان المصطنعة وأتباعها، وبالتالي يعود الحق إلى نصابه والفطرة إلى صفائها.

وصاحبنا الذي عاد إلى صفاء فطرته من النوع الثاني حيث انقلب مائة وثمانين درجة بوسيلة لم تخطر على بال؛ قد يهوِّن من شأنها كثيرٌ من الناس فلا يرون أنها تجدي طالما أن صاحبها غاطس في الشر والفساد والفجور إلى أذنيه.

قد نرى الفاسق أو شارب الخمر أو الداعي إلى المبادئ المعارضة للإسلام فنراه بعيدا عن الهداية، بل لا يستأهل منا نظرة شفقة ولا حتى سلاما ولا كلمة طيبة، لكن صاحبنا رجع إلى فطرته الأصيلة الصافية بفضل بعض الرجال الذين أعطاهم الله الصبر والجرأة على قول الحق والنصيحة وأعطاهم الأمل بأن قلب الإنسان قد يتغير بين لحظة وأخرى.

كان صاحبنا داعيا إلى الشيوعية والماركسية، وكان شديدا في جداله شديدا في خصامه قوي الحجة، وعنده من الثقافة ما يُسْكت الخصم، وعنده مكتبة مليئة بالكتب الفلسفية من اشتراكية وشيوعية ورأسمالية وحتى دينية ومن كل ما هبَّ ودبَّ، وكان قد قرأ أكثرها وجادل فيها. وكان يلقي المحاضرات على الكوادر الحزبية، إضافة إلى أنه كان مسؤولا في منطقته عن الحزب، وكان أهل المنطقة يخافون منه لأنه كان لا يُسأل عما يفعل؛ فبإشارة منه يودِع في السجن مَنْ يخالفه، وبإشارة منه يؤخذ الرجل أو المرأة إلى دهاليز التعذيب.

وكنا في المنطقة نتحاشاه، وإذا قال أحد الكبار: هداه الله كنا نقول له: ادع عليه ولا تدْع له، فهذا لا يهديه الله ولن يهتدي، فهو معقّد في حزبيته، جريء في مخاصمته، قادر على الإضرار بالناس وبلا شفقة أو رحمة، فكيف يهديه الله ؟؟!! ومع ذلك كان الكبار في السن ـ وبخاصة أقرباؤه ـ يدعون له بالهداية، فهو منهم، وأهله معروفون في المنطقة بحسن السيرة والتدين، كانوا يدعون له بالهداية رغم أنهم يستبعدون أن تعلو وجهَهُ مسحةٌ من خير، أو أن يكون في عمله ذرةٌ من نفع، أو أن يكون في قلبه كوّة لدخول الإيمان.

ومرت الأيام، وتفرق الشباب، وجرت أحداث وأحداث، وانطوت تلك الصورة على هذا الوصف؛ خوف.... وتسلط... وسيطرة من قبل بض الأشخاص و...

وكان أحد الشباب الذين عانوا منه ومن تسلطه قد خرج من البلد وسكن في بلد آخر، وبينما كان هذا الشاب عائدا من عمله إلى البيت إذ بشخص يلبس عباءة يتقدم إليه ويسلم عليه بحرارة ويقول له: أما عرفتني ؟! أنا أعرفك، ألست بفلان؟؟ فيجيبه: نعم أنا فلان ..!!..ويبحث الشاب في ذهنه عن هذا الإنسان فلا يتوصل إلى معرفته، من هذا الإنسان بعباءته ولحيته ووجهه المنوّر الذي تبدو عليه آثار العبادة والطهارة والصلاح، ويعرفني أيضا وأنا لا أعرفه؟؟!! وقبل أن يزداد في حيرته قال له ذلك الشخص: أنا فلان ابن فلان ابن منطقتك، فيرجع الشاب قليلا إلى الوراء خوفا منه، ويقول له: أنت فلان ؟؟! فيقول نعم أنا فلان لكني لست بتلك الصفة التي كنت تعرفها عني، لقد ذهبت تلك الأيام بما فيها وتغيرْتُ، وتركتُ الحزب وما فيه ومن فيه،  وبعد تردد قصير ضمه إلى صدره، ودعاه إلى البيت ليعرف قصته.

وفي البيت أخذ يحكي له قصة هدايته ورجوعه إلى فطرته ويقول له:         

إن أحد أقربائي دعاني إلى بيته، وذكّرني بأهلي ونسبي وقال لي: أريدك أن تذهب معي إلى الحج في هذا العام.

فقلت له: أنا أذهب إلى الحج ؟؟!!! ألا تعرف من أنا ؟! ألا تعرف أني لا أؤمن بهذه الأمور.

قال لي: نعم أعرف، لكني أدعوك إلى رحلة ممتعة، وسترى أموراً لم ترها في كتبك ولا في حزبك، فوعدته مترددا، وغادرت منزله.

خلوْتُ إلى نفسي، وقلت: ما عليّ إذا ذهبت مع الناس، ورأيتهم كيف يصلون وكيف يطوفون حول الكعبة ويسعوْن بين الصفا والمروة......؟! ما عليّ إذا رأيت

ذلك رأي العين، واحتفظت به في عقلي الحزبي، وأضفته إلى معلوماتي ؟؟!!.

وأتيت إليه في الصباح وقلت له: أنا موافق على الذهاب، فرأيته في فرح عجيب لهذه الموافقة... هذا الفرح هز كياني، لماذا يفرح بي إذا ذهبت إلى الحج، ويكاد يبكي من فرحه أيضا ؟!!! وكتمت ذلك في نفسي.

ووصلنا إلى الكعبة، ورأيت الطائفين والقائمين والركّع السجود،ورأيت اندفاع الناس إلى العبادة طواعية؛ الكبار والصغار والنساء والرجال، بلا إجبار ولا ترغيب ولا ترهيب، كلهم على قلب واحد وحركة واحدة ولباس واحد، وكلهم يتوجهون وجهة واحدة بخشوع وابتهال وبعضهم ببكاء صادق، ومنهم من لا يعرف اللغة العربية ولا يقرأ القرآن ولا.... وقارنت ذلك بالحزب والحزبيين والفلسفات اللينينية والماركسية فأحسست أن قلبي قد تغير، وصار فيه إحساس لم يكن فيه من قبل، وأن عقلي بدأ يميل إلى مناقشة ما كان يحمل من معلومات وأوهام وتصورات،وأقول في نفسي أين أنت وحزبك من هذا الجمع الغفير ومن هذه العبادة الصادقة ومن هذه الأدعية الخاشعة ومن هذه الدموع السخية الراجية أين أنت وفلسفتك من هذا ؟؟؟!!!.

والخلاصة رجعت وأنا موقن أن الإسلام هو الدين الحق، فصممت  أن أغيّر طريقي، فقدّمت استقالتي من الحزب ومن الوظيفة الحزبية.... ولا أطيل عليك فقد لاقيت من الصعوبة والعذاب ومن السجن مالا أطيق، لكني صممت على المتابعة والصبر حتى أنقذني الله من كل هذا بعد أن ذقت حلاوة الإيمان، وهاأنذا كما تراني الآن والحمد لله.

فقمت وضممته إلى صدري مرة ثانية وقلت له: بارك الله فيك، وأرجو لك الثبات والتوفيق، فقد رجعتَ إلى الطريق القويم وإلى فطرتك الصافية، وأرجو لك مزيدا من الهداية والخير.