صفحات من دفتر الأيام
منى محمد العمد
’’ انتهيت من أداء صلاة الفجر ، وإذ شرعت في تلاوة أذكار الصباح ، وجدت قدمي تقودانني من حيث أدري ولا أدري ، إلى ركن من فناء بيتنا ، بيني وبينه وشائج حميمة ، فههنا ، وقبيل شروق الشمس كنا نجلس لنتناول قهوة الصباح ، هنا ، كم تبادلنا أوراق الريحان ذات الرائحة الزكية ، وكم تبادلنا الأحاديث الشجية , قال لي مرة : إن النيام في مثل هذا الوقت لفي خسارة عظيمة فهو وقت توزيع الأرزاق كما قال عليه الصلاة و السلام , قلت : إنه لكذلك , فقد حصلنا على رزق وفير قد لا نعلمه كله و حسبنا مما نعلم ساعة الصفاء هذه منها نأخذ زادا لبقية يومنا و نسمع تسبيح العصافير و أوراق الأشجار القريبة,,
وأخذ يتحدث عن الفائدة الصحية التي يجنيها المسلم من الاستيقاظ المبكر قلت ربما كان هذا من بعض الرزق الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه و سلم , و امتد الحديث بيننا و تشعب , فأخذنا نتحدث في طبائع أبنائنا فهذا كتوم صبور يصلح للمهمات الصعبة , و ذاك هادئ مثابر يصلح أن يكون طبيبا , و هذا متسرع انفعالي لكنه عطوف حنون قد يصلح شاعرا أو كاتبا , و الصغير سألته : ماذا سيصبح إذا كبر ؟ ضحك وقال : لم تحدد معالم شخصيته بعد لكنني ألمح فيه أمارات نجابة مبكرة , و دعونا الله تعالى أن يوفقهم لما فيه الخير في الدنيا و الآخرة , قام يسقي حوض الريحان وشجرة السدر التي غرسها مؤخرا و إذ جرى الماء في ا لحوض قلت : ما شاء الله الماء والخضراء , وكان يعلم أن عليه أن يكمل العبارة بالنعمة الثالثة , فقال ضاحكا : و الوجه الحسن , شعرت بالرضى و لم لا؟ فزوجي و الحمد لله لم يبت ليله يقلب بصره في محاسن النساء عبر القنوات الفضائية لذا فهو يراه حسنا .
نظرت إلى عرق الريحان الذي اعتدت أن أهديه له و غلبتني دموعي , إن الريحان ليسألني عنه و إن شجرة السدر تسألني و نخيلات غرسها و تعهدها بالماء و السماد لتسألني عنه , و ترد دموعي فلم يعد باستطاعتي رؤية ابتسامته العذبة عندما أقدم هديتي له , نعم فقد رحل رفيق العمر, رحل و بقيت بعده وحيدة بالرغم من ضجيج العالم كله , رحل و ترك فراغا لا يمكن أن يسده أحد , مر في ذهني قوله صلى الله عليه و سلم في حمنة بنت جحش إذ نعي إليها أخوها عبد الله في أحد فحمدت الله و استرجعت و نعي إليها سيد الشهداء حمزة بن عبد المطلب خالها فحمدت و استرجعت و لكنها لما نعي إليها مصعب بن عمير زوجها صاحت فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم : " إن للزوج لمكانة من المرأة " , نعم و الله إن له لمكانة و أي مكانة و إن له لفضل وأي فضل و لو أنكرت ذلك كثير من النساء كان يسافر عني أو أسافر عنه فأدرك جوانب من فضله ما كنت أدركها بوجوده , و لا تزال الأيام تريني من فضله بعد غيابه المزيد , يسكنني من بعده انكسار لا يوصف كما لو كنت ملكة سحب من تحتها العرش فأصبحت لا تلوي على شيء , كأنني كنت أعيش تحت خيمة تحميني , تقيني الحر و القر و الناس إذا بي من بعده كأنما أحيا في العراء نعم لقد فجعت في صاحبي في ليلة كالحة , مضى فجأة إلى العالم الآخر , ذهلت بل ربما كنت غافلة فانتبهت , حسبت أن الموت هو الحقيقة الوحيدة في هذا العالم و كل ما دونها وهم أو سراب , نظرت إليه جسدا مسجى , منذ ساعة كان معنا يحدثنا و نحدثه كانت الحياة تملؤه بكل معانيها منذ دقائق كان يؤدي صلاة الوتر و الآن ...
رحلت روحه صعدت إلى بارئها يا لها من ساعة تنهزم فيها جيوش الصبر إلا أقلة ,
أنا ما زلت لا أصدق الذي حدث , أتمنى لو كان حلما أصحو منه فأقول : الحمد لله إنه مجرد حلم , إني لأعجب كيف لم يتفطر قلبي أسى و لم تتساقط نفسي حسرة عليه وأنا ألقي عليه نظرة أخيرة قبل تشييعه , كان وجهه مشرقا جدا تعلوه ابتسامة كأنها ابتسامة الرضى , حتى لقد سألني أحد أبنائي قائلا : ماذا وضعوا على وجه أبي حتى أصبح أبيض هكذا ؟؟ لئن لم أشارك في تشييعه لقد شاركت في ذلك روحي و إن لم أحضر دفنه فقد دفنت معه سعادتي و بعض معاني وجودي.
اثبتي ـ قالت إحدى الأخوات اللاتي حضرن لتأدية واجب العزاء ـ قوى الله عزيمتك و ألهمك الصبر نسأل الله أن يكون هناك لقاء قريب في مستقر رحمته , أحسست أنها هونت شيئا مما أجد حقا إن الإيمان بالبعث يخفف المصاب و لا عجب أن يصبر المسلم على موت صفيه و لا عجب كذلك أن يجزع غير المؤمن أو ينهار لأن الدنيا هي نهاية المطاف عندهم و ذلك مبلغهم من العلم , اجتمعت إلى أخواتي في الله و ما زلن بي حتى ظننت ما أنا فيه من البلاء نعمة أحمد الله تعالى عليها , و له الحمد على كل حال , عزينني بانتفاضة الأقصى التي تقدم زمرة من الشهداء في إثر زمرة تحت سمع " العالم الجديد " و بصره , و لا أحد يحرك ساكنا و بما يحدث للمسلمين في أفغانستان , فهذه " سيدة العالم الحر " ترسل تحت جناح طائراتها الموت الزؤام لآلاف الأبرياء في القرى الأفغانية تقتل من تقتل و تجرح من تجرح و تشرد من تشرد بحجة واهية تسميها الإرهاب و العالم كله ينظر , نعم قد تبدو مأساتي هذه في فقد زوجي الحبيب هينة ـ وما هي بهينة ـ أمام ما يعانيه المسلمون في أطراف العالم من قتل و اضطهاد و تشريد . قالت لي إحدى الأخوات : غدا تنسين و كيف أنسى من لي معه منذ أن أستيقظ من النوم ذكرى بل هو من كان يوقظني يقول : الصلاة , الصلاة خير من النوم ؟ فأسرع إليها و قد أتأخر فيبدي تذمرا من ذلك فأقول قد قال الله تعالى "وأمر أهلك بالصلاة و اصطبر عليها " و الاصطبار فوق الصبر فيبتسم و يقول : تغلبيني بالحجة فأقول " لا يغلبن إلا كريم " فيعجبه ذلك و يستحسنه . أشرقت الشمس و ذبل عرق الريحان في يدي و بردت قهوة الصباح و لم يشربها أحد , و الذكريات لا زالت تتداعى علي خرجت ابنتي إلى حيث تعلم أين تجدني إذا افتقدتني قالت: حسبك يا أماه فالحياة ما زالت أمامنا , قلت أنتم حياتكم أمامكم تأملون بها و بها تحلمون , أما أنا فحياتي أصبحت ورائي , على الذكرى أعيش و بها أتنفس و منها أقتات , بها ألتذ ومنها أتألم إلى أن تحين ساعة الرحيل , أعيش أستعين بالله تعالى على تأدية رسالتي و حمل مسؤولياتي في الحياة الدنيا و عيني على الحياة الباقية الخالدة بجوار الرفيق الأعلى سبحانه حياة لا موت فيها و لا بؤس و لا بلاء .
أسأل الله تعالى أن يرحم أباك و يسكن روحه في عليين ويجمعنا به في مستقر رحمته قولي آمين.