لحظة اكتشاف القمر
عالية طالب
كنت أبحث عن مكان يحتويني انا والقصة التي تحاصرني منذ فترة ليست بالقصيرة، ضربت طوقها حولي، الحوار يدوي في راسي وجسدي منهك، تعب بالصراع الهائل الذي يدور فيه، ونظراتي أينما أصوبها ارى ملامح وجوه أبطالي أمامي، فتلك حركة أعرفها وهذه الابتسامة الحزينة أفهمها وأعرف لمن هي ومتى تظهر، واهرب منهم معهم ليقودوني إلى أماكن أحبها، تشعرني بالأمان، تقتل أغترابي أو تشعله لافرق فانا ممتلئة بالأسى الذي يقترب مني ومنهم، درت بسيارتي دون هدف أبحث عن صمت هائل ليهادن الاصوات داخلي، وحولي وبيني وبين الآخرين. أعرف جيداً هذا التشظي الذي يشاطرني علاقاتي لا أكاد أتذكر أحداثي جيداً هل وقعت فعلاً أم أنها من نسيج حواراتي التي اشكلها بين ابطالي. والتذكر يؤلمني وأحياناً ـ ألجا إلى ـ نضال ـ صديقتي لأسألها وبتردد برئ عمّا جرى وما يجري في محاولة لإكتشاف أيها حصل فعلاً. علني احدد أفكاري، وأضعها في إطار الواقع أو اجرد خيالي مني.أستمر الضغط اللاهث للاصوات يتصاعد والمسافات تقترب بي من الاعظمية، التي تتوهج في حواسي كل ذكرياتي العذبة فيها، فأشعر وكأنني نسر يبحث عن صرخة لينقض بعدها على مايشاء. تتابعني خطواتي القديمة في كل الازقة التي اجوبها بحثا عن مكان لرأسي، وارى ظلي مايزال يسير باتجاه مقهى ـ صفوان ـ الرابض فوق كتف النهر، هل سأستدير هاربة كالعادة حال أن أصل اليه وكأنني أخشى أن لا أجد نفسي فيه مثلما تعودت أن أراها منذ سنوات طوال، حيث كنت أنزوي أنا ونضال نجتر مشاريعنا المتفائلة والمأساوية محاولتين افراغ غيظنا من عقبات شبابنا، حتى إذا حل المساء إفترقنا دون أن نصل على أية نهاية.
وأتذكر النادل ـ محمد المصري ـ الذي تعود أن يرانا نحن الإثنتين فقط على عكس الزوار الآخرين وكنا نضحك ونحن نعرف أنه يراقبنا. يضع قهوتينا بصمت وكأنه ينتظر أن يضبطنا عاشقتين حتى إذا تعود لقيانا وحدنا أصبحت علاقتنا أكثر مودة.
يومها سألت نضال:
ـ هل الحب إدانة أم اختراق؟
وحين صمتت شعرت بحميم أجوبتها المتصارعة بيننا.أشعر بالحاجة اليها الآن بشدة. أفتقدها بجزع ـ ليتني ادخل المقهى فأراها حتى ولو ظلاً قديماً لا يمارس هروبه مثلي ـ ليتني أستجمع شجاعتي وأدخل، مؤكد أن قصتي ستنسج خيوطها بسلاسة اكبر لودخلت واحتويت نفسي مرة اخرى بعد أن تبعثر منها الشئ الكثير. توسلت بخوفي واضطرابي وجزعي أن يهادنوني لأقرر أن أدخل وفعلاً أشعر بان الرغبة أكبر من كل احتمالاتي. أجل سأفعل ...أوقفت سيارتي في الزقاق المقابل، كما كنت أفعل سابقاً وحملت أوراقي واجتزت الشارع بخطوات عجلى تخشى ترددي ودخلت ...ياه.... إصطخبت الدنيا حولي بعنف ما إن نزلت الدرجات الثلاث، ياالهي، كم أفتقد نفسي هنا؟ والحرائق اللاهبة تتصاعد على رأسي ولا اعرف كيف أسيطر على خطواتي، المكان يطاردني والمقاعد تومئ لي والمنضدة التي اعتدنا جلوسنا حولها مازالت كما هي في الزواية التي تسيطر على كل المقهى، تلفت أبحث عن ـ محمد المصري ـ وكدت أناديه لولا أن حاصرتني نظرات ندلاء لا أعرفهم حولي.
فيما رواد المقهى في معزل عن أي قادم وكانهم لايرون غير وجوه بعضهم، وجاء السؤال في راسي مرة أخرى.
ـ هل الحب إدانة ام اختراق؟
وما نزال دون اجوبة، سحبت خطواتي باتجاه المنضدة التي أعرفها جيدا ولمست الشرشف الأبيض بهدوء. وأنا أجاهد لالتقاط ذكرياتي التي تتزاحم في سباقها وكانها الطوفان، فرشت الأوراق لأرتب إضطرابي فامتلأت المقاعد بأبطالي وازدادت حرائقي. تقدم نادل باتجاهي، ليته يخبرني أين محمد، هل سافر أم تقاعد أم تراه غادر هو آلاخر أمكنته إلى خواء لاتسكنه ذاكرة حية. إبتدأته أنا بالحديث.
ـ سأحتاج إلى فنجان قهوة كل نصف ساعة.
رفع حاجبيه وظلت إبتسامتة تتراقص بخبث.
ـ تنتظرين أحداً ما ؟
تذكرت ـ محمد المصري ـ وكدت اضحك، هو أيضا أراد أن يسألنا السؤال ذاته يوماً، أجبته بابتسامة ساخرة:
ـ كلا، سأكتب ولا اريد أن تقاطعني وأنت تضعه.
إنسحب بخفة واختفت إبتسامته وكأنه بوغت أو أنه كان يأمل بجواب مختلف. وعدت لأوراقي دون ان أتنفس هوائي القديم كما اريد، لابد أن أشغل نفسي وإلا سأهرب لا محالة. نادية وأكرم، أمامي الآن، الحوادث تتصاعد بينهما والتحدي يكبر، من منهما سينتصر؟ ومن سيرضخ؟ لم يقررا بعد، وحوارهما يسحبني الى متاهة لاتشبه إضطرابي الان. واستغرقت فيهما والأوراق تتناثر بين اصابعي أتوقف لبرهة لأسترجع آخر جملة فأجد نادية تختلط بنضال.. فيما أتلاشى أنا بينهما وكأنني مازلت أمارس تلذذي كمتفرجة سطت على أيامي وجعلتني أعيش وحيدة مثل شجرة تعبت من كثر ما أثمرت فاختارت الإنتحار حرصا على ذكراها. أية ذكرى حنطتها انا وسنواتي تشعرني بالعجز لمافعلته بها، وحدة خانقة وخواء وجداني وكاني سراب، أجعل أبطالي يتزوجون ثم اطلقهم ثم أعود لأجعلهم يندمون لكن دون أن أجد لهم مخرجاً أو سببا معقولاً حتى لندمهم، وقفز صوت نادية امامي وكأنها تسالني:
ـ اليس حراماً ان نهيل التراب على حياتنا؟
وتلذذت بنظرة اكرم المليئة بالأسى وهو يكورها في وجهها كما القبضة.
ـ بل الحرام ان تتلاعبي بحياتي.
ياه.. كم اشعر بالاسى لكليهما، من يتلاعب بمن؟ ومن يقسم أنه المكتشف؟ كلاهما يسرع إلى الهاوية هي بتفاخرها انها ضحية وهو باصراره على مواجهتها، ليتني تجرأت يوماً على سؤال نفسي لماذا قدتها إلى الوحدة؟ ولماذا رفضت اية فرحة كانت تومئ لي؟ حتى إذا انحسر إحساسي عوضته بعواطف أبطال أصنعهم من الواقع وأقذف بهم على الخيال فيكبر تشتتهم، كيف استطعت أن أقنع ـ نضال ـ أن تعيش بطريقتي... عانسان عاجزتان عن الحب؟ رغم كل الهوس الذي كبر يوماً داخلنا واغتلناه بانتظار لم يأت؟ وأبداً لم أجد الجواب ذاته على ألسنة كل الشخوص الذين صنعتهم إدانة ام اختراق؟ أم تراه شئ اخر انتهى أوان اكتشافه؟
اطفأت سيجارتي مع اخر رشفة من فنجاني الرابع أو الخامس لا أدري، وجلست اتامل جواب اكرم. لحظتها تحركت الستائر الخزفية أمامي. صوتها الكسول كان يدعوني. رفعت رأسي، رأيت كفيهما المتلاصقين والسعادة التي تنـزلق من عينيه فوقهما، لم أرها، فقط هو كان امامي، يدعوني إلى ماذا، لا أدري! نظراته أيقظت جمرة كنت بحاجة الى لسعتها. لم أستطع إبعاد نظراتي جلسا قريبا مني بعد أن مر عطره أمامي. أعرف هذا العطر جيدأ بل أبحث عنه، بحاجة أنا إلى استنشاق هذه العذوبة ذاتها كان وجهه ملائكيا، بارعاً في سطوته، في حيائه في نشوته، وامتلات بالإرتياح، رضا داخلي ينمو ليرتسم على وجهي ومساماتي وخطوط الأسى حول شفتي، وحاولت بل صرخت، أنا يستفزني وجه مرق امامي وما أكثر ما تراكمت الوجوه حولي؟ تصاعد خوفي من نفسي امتلكني برعب كامل ـ أين محـمد المـصري، نضال ، وقـسوتي على مـشاعري . أمسكت قلمي إلا ان اصابعي لم تنصع لأية كلمة تخشبت كفي وكأنها ليست لي. خدر يغزو عيني، تهدلت أجفاني وكأنني سأغفو على ذلك الصوت الدافئ المنبثق من ازمان كنت أنبش فيها عني باظافري التي تكسرت تباعاً ـ قال لها:
إستيقظت امس في الثالثة فجراً، شعرت بالبرد، قشعريرة رهيبة تجتاحني، قد تقولين مجنون لكني خرجت إلى الشرفة لأستنشق عطرك في ازهاري، كنت بحاجة لك، وجدتك في ندى الفجر وأحسست بالدفء، هدأ الألم في أطرافي المرتجفة، مر وقت لا أحدد اتساعه وانا واقف أراك أمامي، ممتلئا تماما بوجودك قربي، ثم عدت لسريري وأنا متطهر بخيالك، ياه كم كنت رائعة.
أغمضت عينيها، أعرف انها فعلت فاستجابتك لاغماضتها جعلتني أرتجف وانا أراك تحلق في شرفتك مثل شراع يبحث عن سكينة قادمة.
جاءني صوت ـ نادية ـ واهناً، أمسكت قلمي، الخطوط مرتبكة لا أعرف حروفها، قالت:
ـ أضعت عمري معك هباءً.
أمسك أكرم بكفيها متوسلاً:
ـ كلامك كالفؤوس، لم تعد قدارتي تحتمل.
وكيف لي أن أحتمل هذا الصخب المتدافع حولي، وحيدة، محرومة اصغي الى حوارات متضادة. كل الحب، وكل القسوة، الأربعة يتقاذفونني وكأنني لعبة مهملة لايسال عنها أحد. نفضت اصابعي فسقطت نادية فيما صمت ـ أكرم يتابعها كالمذبوح.
جاءني صوت ضحكتها فيما صوته يتوسل بها وهي تنهض بدلال.
ـ لاتتأخري.
ـ خمس دقائق فقط.
تركتك وحيداً ـ يالهامن بائسة، أيترك كل هذا الوجود المفعم بسحره وحيداً، قمت كالمسحورة، دون تخطيط أو سبب أو هدف. اقتربت منك، لم تسمع خطواتي، لم تلتفت الى حركة أصابعي التي لاأعرف ماذا أفعل بها فيما كان القلم منسياً بينهما، بل ربما يساندني بشجاعة غادرتني دون أن أفهم؟
سقط القلم مني حال تلاقت نظراتنا، وقفت امامك كالبلهاء بكل وحدتي، وسنوات قسوتي ـ وضلالي، وخوفي ورهبتي من نفسي وخشيتي من لحظة تشبه هذه، وقفت أمامك، ليتك تعرفني كما أعرفك ليتك تناديني بإسمي تقول لي أنك كنت موجوداً في المقهى ذاته منذ اكداس من السنوات الماضية ترقبني وتحصي خيباتي من قرارات بليدة لم أقاومها، حتى نازعتني وجودي، وقفت امامك بضع ثوان، دقائق، سنوات لاادري، صمت الزمان عندي ثم تدحرج القلم بعيداً عني..... اعادني صوته على برهة صحو ابحث عنها. انحنيت لالتقاطه، أفعمتني رائحتك التي أعرفها جيداً، لامست الشرشف الذي يحتضن كفيك وقلت متلعثمة لا اعرف صوتي:
ـ عفواً.
اوصدت بكلمتي غرقك الجميل بانتظارها، وتحولت نظراتك عن المدخل الذي توارت وراءه منذ قليل اجبتني كالحالم، صوت ينتقل من داخلي انا من بحثي وعنائي.
ـ على لماذا؟
صوتك القريب يدهشني ـ سمعته في داخلي مرات ومرات هنا وفي بيتي وفي كل سنواتي، حدثني به اغلب ابطالي، كان الورق ينطق به وكنت أتدفأ بذلك الصوت في ليالي صقيعي واتنسم ليونته في وحشتي فرصة رهيبة تقترب مني. انت تسأل.
واستجمعت تلعثمي وقلت:
ـ ضايقتك، سقط القلم هنا؟
ـ لايهم، الامر بسيط.
اغمضت عيني على صوتك. تراه بسيطا أن أقترب منك، من سنواتي يامن شهقت في راسي كالشمس، اتقاسم واياك الآن مشاعر اللهفة انت لها وأنا لك. ولايهمني إلا تشابه حالتانا الآن، تمنيت ان اعيد زمني، وشبابي، وتلك اللهفة التي تعيشها الآن كما كانت تنمو يوماً لدي فاغتالها بكل عنف لأثبت أني قوية، لا تأسرني رغباتي، ليت الزمان يستطيل بيننا وتكبر هذه الدقائق لتصبح عمراً كاملاً. أن ألهث ركضاً معك نداعب السماء بأيدينا أن أهرب وأهرب من كل تصحري. أن أندم أنا بحاجة إلى أن أندم على عمري الذي يبدو غريباً عني الآن.
كدت أسقط، فؤوس تعمل بهمة في رأسي، وتدافعت عيون تحاصرني فيما تقف عيناك أمامي وفيهما ألف تساؤل ونسيج يمتد منك نحوي وقبل أن أتهاوى، شعرت بأني أتكئ على أكرم، أحسست به يمسك كفي بتوسل ويقودني إلى أوراقي حيث ظلت نضال ونظراتها المصوبة نحوي.
ولم تكن هي قد عادت إليك ولم تعد أنت ترقب عودتها بالصحو ذاته فيما اسبح أنا في وهمي المتثائب كمن استيقظ على صفعة.
ستغادران بعد قليل أو بعد ساعات وابقى انا وحيدة ، كما اخترت، هل سامحو وجهك عبر ابطالي بعد ان تجسد لي واقعاً، أم ستزداد شموخاً لتؤرق ليالي توحدي القادمة معك وربما أشعر باكتفاء غير مؤرق ولا مؤذ.
سمعت صوتها الذي لايحمل أي معنى.
ـ لنذهب، سنأتي غداً مبكراً كالعادة.
إندلقَ الفرح في داخلي، سيأتيان غداً وربما بعد غد وإلى ما لا ادري من لوعة وسمعته يرجوها بصوت إزداد قرباً إلى نفسي:
ـ لنبق قليلاً.
تماماً كما كنت أطلب من نضال، أشترك معك مرة أخرى بحب هذا المكان وسانتشي كلما احسست بأنك فيه يوماً ما، تتنفس ذكرياتي وتسمع صوتي المحفور فوق جدرانه وسنوات شبابي التي اهدرتها قسوة من تتلذذ برؤية دمها مسفوحاً لتقول لنفسها انها قد ظلمت ...ممن ....لا ادري؟
لملمت اوراقي وكنت اشعر بأن روحه تراقبني، لا أفهم كيف انبثق لدي هذا الشعور سأغادر، لن أدخل هذا المكان مرة أخرى. لآبد ان تبقى انت هنا، سادعك تعيش معي فيه، علّك تدرك أنك كنت لي يوماً قبل أن أكتشف وجودك حقاً.
وقفت متثاقلة وكأنني اغادر روحي، لم ألتفت صوبها، لم أعد أسمع صوتيهما تلاشت اذناي، حواسي، اطبق المكان بكل زبائنه حول فراغي، خطوت اول خطوة ورأيتك أمامي، واقفاً كالملاك، بارعاً في سطوته في نشوته.... كان أمامي وصوته يضج ليملأ الفضاء كل الفضاء.
ـ لنبق قليلاً، ارجوك.
ـ ياه......