الإرث
شريف قاسم
مازال الحاجُ محمد يلقي بكلِّ سمعِه إلى حديث الشيخ اليومي بعد صلاة العصر . وما زال المسجد الكبير يكتظُّ بالمصلين ، الذين استهواهم صدقُ نبرات الشيخ ، وحرارة أنفاسِه ، وهو يجدد فيهم الهمم ، ويلهب المشاعر . والشيخ أغراه حُسنُ استماعِهم ، وحُسنُ مايسمع من أخبار سير الناس الطيبين ، والموسرين منهم بشكل خاص في هذه البلاد المنكوبة التي عاث فيها الأعداءُ فسادا وتدميرا وقتلا وحصارا . وكان ينظرُ في وجوه القوم فيعجبه ما يلمحُ في أساريرِها من بشائر الخير رغم كلِّ المحن التي يعيشونها صباح مساء . وهو يعلم أن صفة الخير طبيعة وسجية تلازمهم ، وتمنحهم القوة للبذل في سبيل الله ، وهي قوة مستمدة من عروة الإيمان بالله تلك العروة التي لاانفصام لها . وكان من خلال أحاديثه يذكرهم بأحوال المنفقين منذ عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى زماننا هذا . وينثر بين أيديهم أسفار النماذج المتميزة ، حيث ارتفع أهلُها بمزاياهم ورؤاهم ، حين شعروا بسعادة تغمر قلوبَهم التي تجذَّرَ فيها الإيمانُ بالله ، فأغدقث بثمارِه اليانعات . وكم أكبَّ الحاجُ محمد باكيا متضرعا إلى الله سبحانه أن يكلأه بالرحمة ، ويتقبل منه صلاته وصدقاته .
كان حديثُ الشيخ في تلك الساعة حول فريضة الزكاة ، وأهمية التكافل الاجتماعي في حياة المسلمين ، وعدد مآثر الفريضة ، وكيف تغلقُ أبوابَ السوء ، وتطفئُ غضبَ الربِّ جلَّ وعلا ، وتدفعُ ميتة السوءِ ، وراح الحاج محمد يجهشُ بالبكاء ، فله مع الموت ذكرياتٌ في أحبة افتقدهم ، واحتسبهم عند الله ، بينما كان الشيخُ يرفعُ صوتَه معددا بعض المآثر الأخرى ، ومعلنا أن البلاءَ لايتخطَّى حِصنَ الصدقة ، وأن الصدقة تباهي يوم القيامة بمكانتها دون سائر العبادات المرضية ، واختتم حديثَه الشيِّقَ بما رواه مسلمٌ في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال : ( بينما رجلٌ في فلاةٍ من الأرضِ ، فسمعَ صوتا في سحابةٍ : اسقِ حديقةَ فلان ، فتنحَّى ذلك السحابُ ، فأفرغَ ماءَه في حرَّةٍ ، فإذا شرجةٌ من تلك الشِّراجِ قد استوعبت ذلك الماءَ كلَّه ، فتتبع الماءَ ، فإذا رجلٌ قائمٌ في حديقةٍ ، يحوِّلُ الماءَ بمسحاتِه، فقال له : ياعبدالله مااسمُكَ ؟ قال له : فلان . للاسم الذي سمعَ في السحابةِ . فقال : ياعبدالله لِمَ سألتني عن اسمي ؟ قال : سمعتُ في السحاب الذي هذا ماؤُه صوتا يقولُ : اسقِ حديقةَ فلان ، لاسمك . فما تصنعُ فيها ؟ قال : أما إذْ قلتَ هذا ، فإني أنظرُ إلى مايخرجُ منها فأتصدق بثلثِه ، وآكلُ أنا وعيالي ثلثا ، وأردُّ فيها ثلثا ) . كان حديثا بليغا مؤثرا شدّ انتباهَ الحاضرين من أمة محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم . وأوقد في صدورِهم جُذى اليقين بقدرة الله ورحمته ، كانت عينا الحاج محمد تشرئبان بشغفٍ نحو الشيخ ، وتحلقان لتستطلعا مافوق السحاب ، ليعلمَ سببَ اندفاعِ الصحابي الأنصاري صاحب بَيْرُحاء للتبرع بأحبِّ مالِه إليه ، إذ لم يكن حدثا عاديا ، ولكنَّ النُّبوةَ أرتْهُ مالم يرَ الآخرون من بني البشر . وخرج الناسُ من المسجدِ بزادٍ وفيرٍ جديدٍ من بساتين الإسلام الوريفةِ ، ويشاهدُ الحاجُ محمد عند باب المسجد ولديه حسنا وبدرَ الدين ، وغيرَهما من الشباب الذي لاينأى عن حياض بيوت الله ، وتذكَّرَ ابنه مصطفى الذي آثرَ الانخراط في كتائب القسام المجاهدة ، ودعا لهم بالثبات والنصر المؤزر . وتقدم حسنٌ شطرَ أبيه ليقدم له رسالةً من أخيه عبدالكريم الذي هاجر مضطرا ، واستقر به المقام في الغربة ، ليعمل في شركة تجارية يملكها الحاج فاضل ، الذي أُعجب بسلوك ونشاط عبدالكريم ووافق له على الزواج من ابنته خديجة ، فكان له منها ثلاثة من البنين ، ويفرح الحاج محمد وهو يقرأ أخبار ولده وأحفاده ، وتدمع عيناه ، ويتمنَّى أن يراهم في أقرب فرصة ، ويستغرق في قراءة تفاصيل الرسالة ، ولم يوقظْه من رحلته الحانية إلا أصواتُ المهللين والمكبرين من سيل الجموع الحاشدة ، التي تحمل على أكتافها أربعة جثامين لشهداء سقطوا في اجتياح العدو الصهيوني للمدينة ، ويعيد الحاج محمد الرسالة إلى ظرفِها ، ويدسها في جيبه ، لينضم مع ولديه إلى جموع المشيعين الذين يؤدون صلاة الجنازة ، وتتفجر الأحزانُ مرة أخرى في صدر الحاج محمد ، وتفيض عيناه بالدمع السخين ، بينما راح ابنُه حسنٌ يحمل الجثمانين مع بقية الشباب المجاهد وهم يتوعدون بالثأر القريب ، ولقد جسَّدوا نيَّاتهم الطيبة الصادقة بأعمالهم البطولية التي تجاوزت حتى الخيال . وقد أذهلت العدو اللدود ، ووضعت الأصدقاء في زوايا الإهانة التاريخية ، فهم الذين استأثروا بإرث النبوة ، فلا مكان للهوى الهابط ، أو الرغبة الخسيسة في جوانحهم الطاهرة ، ولا وجل من الأخطار التي تحدق بهم آناء الليل وأطراف النهار ، ولعل قلوبهم استظلت بوعد الله في الفتح ، فلا بدَّ من تحويل مجرى هذا الظلم والاستكبار إلى التباب والانهيار مهما بلغت التكاليف . ويرى الحاج محمد ولدَه حسنًا في حديث مع شابين يلمع جبينُ كل منهما بنور مسبل ، يحدث عن نشوة الشوق إلى جنات الخلود ، ويتفرق الشباب على موعد ظامئ لِلِقاءٍ صاغت رؤاه تلك النشوة . ويقرأ الحاج محمد بعين فراسته النافذة أنَّ ابنه قرَّر أمرا ما مع صاحبيه . ويقبل الفتى على والده وأخيه بدر ، ويستأذن للحاق بصاحبيه ، حيث اتفقوا على إحياء الليلة في بيت أحدهما . بينما عاد الوالد المكلوم مع ابنه بدر الدين ليجدا الأسرة تنتظرهما على مائدة العشاء .
كانت ليلة حافلة ، تلك التي قضى حسنٌ ساعاتها مع شابين مؤمنين في صياغة موقف بطولي ، يعزُّ به صوتُ الحقِّ ، ويترجم إحدى صور الثأر للأخوة الشهداء بتضحية لها مكانتها ومثوبتُها عند الله . فهم مَن يتصدّون بحُسن بلائهم للعدو الذي أمضَّ أفئدتهم بالفجائع المتلاحقة , فبات كل امرئ منهم أسوان النفس , يتحيّن الفرصة التي تُطير صواب العدو الغشوم , حتى يعلم أن قدرتنا تفوق قدراتهم , وأن هؤلاء المجاهدين الأبرار هم الأقدر بمشيئة الله على الأخذ بناصية المواقف الصعبة . ثم انسل كل ٌّ منهم إلى أهله , وقد آثروا ستر مابيّتوه حتى عن أهليهم . طرق حسن الباب ليجد أمه في انتظاره لحظة وصوله , وكأنها علمت موعد الوصول , ولطالما تنغّصت أيامها بأنواع المرارات ومختلف الابتلاءات , ومازال يوم ابنتها سمية ماثلاً بين عينيها الذابلتين , فلم ترقأ لها عين , ولم تغب صورة ابنتها الحبيبة التي توفّاها الله وهي في سجدة التلاوة عصر اليوم السابع والعشرين من رمضان , والمصحف إلى جانبها , وقد بقي لها ثلاثة أجزاء منه لإتمام حفظه ... أين كنت ياولدي, الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل , ولايخفى عليك مايقوم به العدو من بطش واعتقال.. واحتضنته بحنان شعر به هذه المرة أكثر من سابقاتها وهي تلقي على سمع قلبه أنّاتها التي لم تستطع كبح جماحها . قال حسن : مالك ياأمي أنا بخير..وراح يمازحها : أتشكين في سلوكي ؟ هل تعلمين أني ساهمت في عمل لايرضيك ؟ أو اقترعت مع غيري على أمر فيه بُطل ؟ اطمئنّي ياأمي.. فوالله لاأعصيك أبداً .. وأمسك بيدها ودخلا المنزل , ولمحت عيناه والدَه وهو مسجّى على فراشه وقد أشرق وجهه , وكيف لا وهو من سراة المحسنين في البلدة , ومن أوائل أهل البذل والعطاء , لمن هُدمت داره, أو جُرِّف حقله , حتى لقَّبه الناس بمجيز الفقراء , فما طلب منه أحد إلا لباه , وقد تغيّرت النفوس , ولكنّ نفس الحاج محمد لم تتغير , وهذه الإشراقة على صفحة وجهه الأبلج لدليل .. رعاك الله ياأبي , علمتنا كيف تكون الحياة الكريمة , ولم تستسلم يوماً للأرزاء , وما أكثرها , ولكن .. كان يريد أن يعبّر لوالده عن جود آخر , الجود بالنفس في سبيل الله ولعلّ البيع يربح في أسواق الجنة , وتمر أمام ناظريه مواكب الجثامين المدماة , وتسمع روحه صدى الاستهانة بترف هذه الحياة الهابطة في قوله تعالى : ( إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة .. ) .. سامحني ياأبي غداً موعدي مع من اعتدوا وبغوا , والله إني لأشتم ريح الجنة خلف ذاك المعسكر الذي ينطلق منه الأعداء لقتل أبناء بلدي , سامحني ياأبي فإني – وربي – قد رميت هذه الحياة كما رمى صاحب التمرات تمراته ..
كانت أمه قد دخلت غرفتها, وبقية أفراد الأسرة أنزل الله عليهم السكينة فناموا في هناء بعد أداء الواجبات .. توضأ حسن وأحسن الوضوء, واستقبل بيت الله الحرام يصلّي لله ركيعات ربما كانت آخر عهده بالدنيا , وسأل الله له ولصاحبيه التوفيق والشهادة , وأن يلهم أمه وأباه وسائر الأسرة الصبر الجميل . وكان أخوه عبدالكريم يتابع أخبار الأهل والمجاهدين , ومازالت رسالته التي بعثها يوم وفاة أخته سمية محل اعتداد من قبل الأسرة , وعلى الأخص حسن الذي يقرأ فيها صفحات الإيمان في قلب أخيه عبدالكريم , ومازالت هداياه الثمينة يوزعها أبوه على المحتاجين, وعلى من تهدمت دورهم , فقد راجت تجارته ونمت أرباحه , وصدق الله القائل : ( أن الله بيسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه كان بعباده خبيراً بصيراً), لقد أضحى عبدالكريم بن الحاج محمد تاجراً مرموقاً , ذا همة عالية , وقدرة على حُسن التعامل وسعة الصدر والكرم , فهو نسخة مكرّرة عن أبيه الفاضل المحسن الجواد .
وتشرق شمس صباح هذا اليوم دافئة هادئة , ويُطرق الباب على أهله الذين كانوا يتناولون طعام الإفطار , وينهض حسن ليرى من الطارق , وإذ به رسول من أخيه عبدالكريم , تعرّف عليه الحاج محمد فأكرمه , وشاركه في طعام إفطاره , والضيف يحدثهم عن ابنهم البار عبدالكريم , الذي صار نبراساً لكلِّ تاجر صدوق , وقدّم لهم مبلغاً كبيراً من المال أرسله ليتصرّف به الوالد كيف أراد . وانصرف الضيف , وراح الحاج محمد يعدّد أسماء الذين هم بحاجة للمساعدة , فقال حسن : أعطني ياأبي قسماً من المال , فإني أعرف أسرتين بأمسِّ الحاجة له في هذه الأيام . ويناوله والده مبلغاً كبيراً من المال , هبّ حسن مسرعاً إلى صاحبيه , فقد حانت ساعة تنفيذ مااتفقوا عليه , أقسم على كلٍ منهما أن يأخذ نصيبه من هذا المال ويقدمه لأسرته الآن , وقبل الانطلاق بتنفيذ العملية البطولية , وكان له ماأراد , فالمجاهدون يدٌ واحدة على السراء والضراء .
وانطلق حسن وصاحباه , يبيعون أنفسهم لله , في ميادين الجهاد , جهاد العدو المتغطرس , تحت راية الإسلام , وهم يلبُّون نداءات الثكالى والأيتام والجرحى والمأسورين , وراح حسن ينشد :
اللهم لولا أنت ما اهتدينا ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلنْ سكينة علينـــا وثبّت الأقدام إن لاقينا
وصاحباه يردّدان معه, وتدمع عين أحدهما , ويراه حسن فقال له : دموع الشوق للجنة أم دموع .. ويقاطعه صاحبه قائلآً : إنها دموع فرحي وأنا أشعر أني حققت مايودُّه رسول الله –صلى الله عليه وسلم – في الحديث الذي رواه مسلم : ( تضمّن الله لمن خرج في سبيله .. ) واستطرد يسرد الحديث النبوي البليغ حول الجهاد والأجر ولون الدم وريحه وختمه بقوله صلى الله عليه وسلم : ( فوالذي نفس محمد بيده لوددت أن أغزو في سبيل الله فأقتل ثم أغزو فأقتل ثم أغزو فأقتل ) . قال صاحبهما الآخر : أبشروا بريح الجنة فوالله إننا لنغزو الآن..
واقتحموا معسكر العدو على حين غفلة منه , ودارت معركة لاتسمع فيها إلا أزيز الرصاص , وقُتل من العدو عدد من جنوده , وعلت صيحة حسن الله أكبر .. إذ أصابته رصاصات فصعدت روحه إلى الله , وتعلو صيحة الآخر : فزتُ ورب الكعبة .. وتصعد روحه إلى بارئها في عليين , ونظر الآخر فلم يجد أحلى من الشهادة , فألقى ما بقي لديه من القنابل على العدو, وامتشق بندقيته , وراح يذيق الطغاة العتاة نار الثأر والعزة , حتى أصابته رصاصة في رأسه ولحق بصاحبيه مع الشهداء . وهدأت الأصوات , وفاحت طيوب الشهادة من دماء طاهرة , أصحابها صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
وتتناقل الإذاعات أخبار العملية البطولية , وتدمع عينا الحاج محمد وهو يسمع نبأ استشهاد ثلاثة من الفدائيين , فعلم بعين فراسته أن ابنه حسناً هو أحدهم , وأما الآخرين فهما صاحباه اللذان وقفا معه عند باب المسجد بعد انتهاء درس الشيخ , وهما من أخذ حسن المال لهما في هذا الصباح . ويستقبل المهنئين له باستشهاد ولدهِ , وينطلق صوت الشيخ في بيت الحاج محمد كما كان ينطلق في المسجد , ويصغي إليه الناس ممّن حضروا العزاء. فعدّد الشيخ فضائل الشهادة , وعرّج على ذكر مآثر الحاج محمد في البذل في سبيل الله وعمارة المساجد ومساعدة الأيتام , ولم ينس ولده عبدالكريم الذي يعتبره النبع الذي لاينضب بفضل الله , إذ لم تمنعه غربتهُ من إرسال المساعدات للمحتاجين وكان آخرها ما وصل بالأمس . وختم الشيخ كلمته المؤثرة مخاطباً الحاج محمد مباركاً له باستشهاد ولده حسن , وبحُسْنِِِِِِِِ خاتمة حياة ابنته سمية التي توفاها الله وهي في سجودها بين يديه محاولة ختم القرآن الكريم وحفظه في شهر رمضان المنصرم , وسأل الله له وللجميع حُسن الخاتمة , وقال : ليهنك ياأباحسن هذا الإرث , وهذه المنافسة على صفحات المجد التي لاتُسَطّرُ إلا للسابقين في فعل الخيرات . ثم تلا قول الله تبارك وتعالى : ( ياأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون ) 77 – الحج.