ثلوج المدينة

ياسين سليماني

[email protected]

كان البرد قارسا حينما أراد الشيخ إبراهيم غلق حانوته والذهاب إلى المنزل، وكان قد أذّن للمغرب قبل دقائق، في هاته الأيّام كثرت الثلوج على غير العادة، لقد سمع منه الكثير من الناس بأنّ ثلج هذا العام لم تشهده هذه المنطقة منذ ما يزيد عن خمسة عشر عاما، الأوحال في الحيّ الذي تتواجد فيه حانوته جعلت منظره بغيضا لا يكاد يمرّ عليه إلاّ المضطرّ.

كان ملتفتا إلى الخلف حين دق باب حانوته، ويظهر أنّه لم يسمع، فأعاد الطارق الدق ثمّ فتح الباب بصعوبة فطن لها الشيخ.

كانت الحانوت خاصّة بتصليح الأحذية، لقد دخل فتى في العشرين من العمر يريد تصليح حذائه الذي اقتناه منذ أسبوعين فقط، قال هذا للشيخ، لكنّه لم يردّ عليه إنما طلب منه الجلوس على الكرسيّ أمام المدفأة الصغيرة.

ولم يكد الفتى يجلس حتى دخل رجل في سنّ الأربعين، بدأهما بالسلام، فردّ الفتى في حين لم يردّ الشيخ إلاّ بعد أن كرّر الرجل التحيّة.

أعطى الفتى الحذاء للشيخ وبقي جالسا على الكرسي وهو حاف، ووجد العجوز أنّ الحذاء قد تمزّق نصفه، بدأ تصليحه بهمّة رغم الزكام الذي كان يتأفف منه.

تصليحه للحذاء، إدخاله للمخرز وإخراجه مع ما في ذلك من عسر بذلك النشاط يجعل الرائي يظنّ أنّه شاب، في البداية كان يقول في نفسه أنّه أساء اختيار الحانوت، فالشيخ لن يتمّ إصلاحه إلاّ بعد ساعتين، لكبر سنّه وبسبب البرد غير أنّه وجد خلاف ذلك.

كان الشيخ إبراهيم والرجل ذو الأربعين عاما يتجاذبان أطراف الحديث عن الثلج قبل عقود وكيف أنّه كان يغطّي أجزاء كبيرة من المنازل، وهو ما حدث هذا العام عكس الأعوام الماضية، أمّا الفتى فإنّه كان يسمع وينظر إلى الشيخ وكيف أنّه طوى الحذاء خلال إصلاحه وكأنّه يريد تكويره - وهو ما استاء له – أكيد أنّه لن ينتعل هذا الحذاء إلاّ كارها - أو هكذا خيّل له – وقطع تفكيره هذا دخول رجلين أحدهما كهل والآخر يماثل إبراهيم سنّا، غير أنّه أقوى بنية منه.

دعا الرجلان إبراهيم إلى العودة إلى المنزل، لقد أمضى كلّ نهاره في الحانوت مما يعني أنّه هلك تعبا، قال لهما إبراهيم:

- إنّ الوقت الذي يذهب فيه الناس إلى منازلهم أبدأ فيه أنا العمل.

والتفت إلى الفتى فقال له: منذ زوال هذا اليوم إلى الآن لم أضع مخرزا في يدي ولم ألمس حذاء.

قال الرجل ذو الأربعين: إنّه المكتوب يا حاج.

قال الشيخ الذي يماثله سنّا: لم يأت رزقك إلاّ الآن يا إبراهيم ؟

أجاب: نعم، الآن فقط.

كرّر ذو الأربعين: إنّه المكتوب يا حاج، على الأقلّ تجد عشاء هذه الليلة.

قال الذي يماثله سنّا: حينما تعود إلى المنزل عليك بالخبر والماء فقط كي لا تموت، فلا حاجة لك بغيرهما!! ثم سلّما وخرجا وكأنهما لم يأتيا إلا لهذه الكلمات.

قال الشيخ إبراهيم متحسرا: ما جدوى المنزل إذا لم يكن به أحد غيري ؟ لا أحد ينتظرني، ولا أحد أنتظره... إذا لم أفطر لا يدري بي أحد، إذا بردت كذلك، ويوم أموت، أكيد أن لا أحد يعرف ذلك إلاّ بعد أسبوع أو ربّما شهر.

قال ذو الأربعين: أليس لديك عائلة يا حاج ؟

تنهّد ثمّ قال: نعم، لم يبق من عائلة الحاج إبراهيم إلاّ إبراهيم.

كاد الفتى في هذه اللحظات يصبّ حفنة من الدموع وكان إبراهيم قد شارف على الإنتهاء من تصليح الحذاء، فلما انتهى قدّمه للفتى فانتعله ثمّ وقف عن الكرسي وسأله عن الثمن فأجابه وأعطى الفتى المبلغ للشيخ وتمنّى لو كان يملك أكثر من ذلك ليعطيه غير أنّ المال الذي كان عنده ليس في الحقيقة ملكه.

خرج الفتى من الحانوت تاركا الشيخ مع ذي الأربعين يحكيان عن الثلوج في حين أنّ قلبه تكدّس فيه الهمّ، همّ هذا العجوز المسكين.