التوبة

شريف قاسم

[email protected]

خرج ( رشيد ) صباحا بسيارته التي أعدها للسفر إلى مكة المكرمة لأداء العمرة ، يريدُ صديقه العزيز ( حسنا ) ، حيثُ اتفقا منذ أيام .كان حسن جاهزاً, فقد وضع ملابس الإحرام وبقية اللوازم في "الشنطة" طلب من رشيد أن يمرّا على صندوق بريده قبل السفر , وبالفعل تناول رسالة والده فتح الرسالة , قرأها , حمدالله, قال رشيد: بشِّر .. الأخبار طيبة إن شاء الله , نعم طيبة يارشيد , ولكن بنفسي أن أقرأ في إحدى الرسائل خبراً يسرّ فؤادي وتطمئن له نفسي. قال رشيد : ماهو؟ أجابه: أخي وليد وكما أخبرتك من قبل مازال يقبع مع الأغاني والملهيات .. لاصلاة ولاصيام , مع أنه وعد الوالد بتوبة ولكن.. رد رشيد: يهديه الله , ادع له , نحن متوجهان إلى بيت الله الحرام, ويا طيب المنازل والمشاهد... أجل يارشيد سأدعوالله له عند الملتزم, وعند المقام. لعلّ الله أن يأخذ بيده .

 ويعودان إلى بيت رشيد , ويصليان ركعتي السفر , ذكّر أحدهما الآخر الذي أجابه , أجل ياحسن , فلقد قال عليه الصلاة والسلام :" ما خلّف أحدٌ عند أهله أفضل من ركعتين يركعُهما عندهم حين يريد سفراً ". وخرجا وهما يرددان آية الكرسي, وأسمعَ أحدُهما الآخرَ الدعاءَ: " اللهم بك نستعين وعليك نتوكل , اللهم ذلل لنا صعوبة أمرنا, وسهّل علينا مشقة سفرنا , واصرف عنا كل شر... " واستويا في السيارة, ورفع رشيد صوته قائلاً : " باسم الله . الحمد لله الذي سخر لنا هذا وماكنا له مقرنين , وإن إلى ربنا لمنقلبون .. الحمدلله, الحمدلله, الحمدلله, الله أكبر, الله أكبر, الله أكبر " . وأدار مفتاح محرك السيارة , فتهادت على بركة الله, وعاد لسان كل منهما يردد: " اللهم أنت الصاحبُُ في السفر , والخليفةُ في الأهل , اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر, وكآبة المنقلب.. " وخرجا من محيط المدينة, واستقبلا أفق شارع مديد عريض تحذّر لوحاته الإرشادية من السرعة الفائقة , والتجاوزات الخطرة, ويرفع حسن كلتا يديه بدعاء يسمعه رشيد يسأل الله فيه التوفيق والستر وأن يهدي أخاه إلى الصراط المستقيم, أمّن رشيد على دعائه , وقال جزاك الله خيراً ياأخي وتقبل منك . إن دعوة المسافر من الدعوات الثلاث التي لايردها الله. كانت نسائم الصباح جميلة, تحرك فيهما مشاعر الإيمان بالله, ويذكّرهما هذا الطريق بالسفر إلى الآخرة , فيحمدان الله على أنهما ليسا من أهل الغفلة, ولاممّن قيدوا أنفسهم بحبال الآمال , ولامن استعبدتهم الملذات والموبقات.

 ينظر حسن إلى ساعته , وهي تشير إلى العاشرة , فيقول لرشيد: دعنا نسمع أخبار اليوم , أدر مفتاح المذياع , وإذا بنشرة الأخبار قد ابتدأت : باستشهاد واعتقال عدد من الفلسطينيين في الضفة والقطاع ومقتل ثلاثة جنود أمريكيين , وجرح سبعة آخرين وإحراق مركبتين في بغداد .. عملية استشهادية في الشيشان تسفر عن مصرع عشرين جندياً شيوعياً وعشرات الجرحى... وفي النشرة أخبار أخرى متفرقة . تألما لمقتل واعتقال إخوانهم المجاهدين , وفرحا لمصرع أعداء المسلمين . واستطردا في حديث عن أحوال أمتهم المنكوبة في مشارق الدنيا ومغاربها .. وعددا فوائد وسائل الإعلام الطاهرة ذات الوفاء والإخلاص للأمة وللقيم . واستنكرا موجات التضليل والدعوة إلى الفساد والسفور من خلال أشرطة الغناء المسموعة والمرئية التي باتت شغل الشباب والشابات مع الأسف , وينظر رشيد إلى الساعة ... لقد حان موعد صلاة الظهر, هدأ من سرعة السيارة وأعطى إشارة دلت على نزوله نحو مكان منحته الأشجار الظل الظليل , والهواء العليل . أديا صلاة الظهر والعصر قصراً وجمعاً وأخذا قسطاً من الراحة تناولا فيه بعض الطعام والشراب , ثم انطلقا يغذان السير نحو الديار المقدسة .

 قطعا مسافة لابأس بها , أتما خلالها حديثهما حول ماتتعرض له الأمة من مكر وكيد وعدوان وتمنيا أن يشعر الشباب بحاجة البلاد إلى قوتهم ونشاطهم وتفوقهم في جميع المجالات , وأن يأنفوا من الرذائل والملهيات التي أعمت الكثير منهم ,وأن يقفوا عن الإسراف في بذل أعمارهم من غير جدوى , فهذا الإسراف ضيّعَ عليهم الحقوق , وبدّد شمل الواجبات , في غرائز مستثارة وفي فتنة تعمي وتصم ّ , فاجأهم في الطريق قائد السيارة التي أمامهم يشير إليهم بالتمهل وتخفيف السرعة , أتبعها بوقوفه إلى جانب الطريق وترجُّله من سيارته , مثل أناس آخرين تجمعوا حول سيارة صدمت أخرى في حادث مروّع , والناس في مثل هذا لايقصّرون, هبّ رشيد وحسن وآخرون , يُخرجون المصابين من داخل السيارة المهشمة , قائد السيارة حمدان ومشبب الذي كان يجلس إلى جانبه فارقا الحياة , وعبدالمجيد أصيب بكسور ونزف وأما علي فقد كان مغمى عليه ... تعرف عليهم ابن مدينتهم التي تبعد عن مكان الحادث بضعة كيلو مترات . حضرت دوريات رجال المرور , وتبعتها سيارات الإسعاف, والناس في هرج وقيل وقال . هذا يُعزي السبب للسرعة وآخر لطيش الشباب, وثالث للمخدرات ورابع راح يقول : " إذا نزل القدر عمي البصر" وينطلق صوت رجل آخر قائلاً: أخرسوا الصوت اللعين في السيارة, أجل تحطمت السيارة وبقي مذياعها بصوته المرتفع يردد لإحدى المغنيات قولها : ( خذني لحنانك خذني .. عن الوجود وبعدني .. نعيش لوحدينا .. بعيد .. بعيد.. ) وتعاد الجمل مرة أخرى قبل أن ينقطع الصوت الشيطاني عند كلمتي : بعيد.. بعيد..

 نُقل المصابون إلى المستشفى , وتفرق الناس , وعلا صوت السيارات المتجهة نحو الشمال , والأخرى المنطلقة نحو الحنوب , وتحركت سيارة رشيد .. وهو يحوقل , وإلى جانبه حسن يتألم , ولكنه ادّخر للطوارئ قلباً مؤمناً , وفكراً نيراً , يأخذه العجب من أناس يلهون والقدر يلاحقهم, ويلمح أخاه خلف حجب المسافات الطويلة يصغي بكلتا أذنيه إلى الأغاني والموسيقى , مدبراً عن واجباته الدينية , ويعيده رشيد إلى وجهته التي يسرعان على دربها , قائلاً: أين وصلت يا حسن ؟ أجابه : حيث وصلت يا رشيد , ولكني أسأل ماذا يبقى للأمة إذا أخذت الأهواء والغانيات شبابنا وعنفوانهم عن هذا الوجود الدنيوي ,إلى مكان بعيد.. بعيد حيث الرذيلة والهوى وسماع الموسيقى والأغاني, وإلى حيث استحلوا الحر والحرير والخمر والمعازف, مستهزئين بالعلماء والملتزمين بأوامر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ؟؟!! أجل يا حسن .. يبقى هذا الهوان والذل وحبُّ الدنيا, تبقى الهزيمة من ميادين العطاء والبناء والجهاد.. وأضاف رشيد : وتبقى للأمة الكوارث والنكبات , وأخيراً أصبح أبطال الأمة ونجومها اللامعة هم المغنون والمغنيات,ومخرجو الأفلام السينمائية والتلفاز, حيث الدعوة إلى الفحش والخمور والسفور وتزوير القيم بالتمثيليات الخليعة والأفكار الهابطة.

ردّد حسن : اللهم الطف بنا ياأرحم الراحمين. نقله رشيد مرة أخرى إلى ماهما إليه ذاهبان , وراح ينشد بشوق:

أمـن ( الحجون ) الطيبُ هيَّج ذاتي
أم ( ذو طوى ) الوادي البهيّ بربعها
(وأبـو قـبـيس ) والمنازل iiحوله
هـذا  ( ثـبـيـر ) وهـذه أطيافه
يـامـكـة البيت الحرام , ويا iiمنى
سـأقـبّـل الـحجر الأغرّ iiوأعيني
فـانـزل أيـاحسن الصفات iiفهاهنا






أم مـن نـسـيـم العفو iiوالرحماتِ
قـد  جـاد واشـوقـاه iiبـالنفحات
قـد  مـاس بـالأنـوار iiوالبركات
فـي  مـقـلـتـيّ تموج iiمبتهلات
قـلـبـي أتـيـت بلهفتي iiوشكاتي
جـاشـت إزاء الـبـيت iiبالعبرات
(قـرن الـمـنازل ) وادن iiللميقات

نزلا من السيارة , وتطهرا وأحرما , وردّدا أذكار الإحرام , وشعرا بروعة الإيمان والقرب من الله , وهاهما يقصدان البيت الحرام لأداء العمرة, فيالها من ساعات انفجرت فيها ينابيع الإضاءات الربانية,وتهللت بشراً بالعطايا اللدنيّة, طافا , سعيا, شربا من ماء زمزم , أداما حضور الصلاة جماعة في المسجد الحرام حيث تُضاعف الحسنات وتُمحى السيئات, يغمرهما لطف الله وعفوه , ويشملهما رضاه, وتجوّلا في أسواق أم القرى , فلمحا مكتبة حافلة بالكتب القيمة. فأشار حسن على رشيد أن يشتريا بعض الكتب الأثيرة النافعة لمن نجا من حادث السيارة, علّها تكون عروة مودةٍ وهدية نصيحة , فاختارا منها ما يبهج القلب , ويقوّم الفكر, وينشئ السلوك الصالح . وأقفلا عائدين شطر الجنوب , وعرّجا إلى المستشفى الذي يرقد فيه من نجا, كانت الزيارة قد بدأ وقتها, فسألا عن الغرفة, وأخبرهما أحد المسؤولين أن الشاب عبدالمجيد قد فارق الحياة أمس بعد نوبة قلبية حادة, وأما علي فقد منّ الله عليه بالشفاء والعافية وهو في الغرفة ذات الرقم (س-14 ) دخلاها فوجدا شيخاً جاوز الستين من عمره , إنه والد علي, وعلي أصغر أبنائه وقد جاوز العشرين.

سلّما على الوالد وعلى الولد, وأخبراهما بأنهما شاهدا الحادث, والحمدلله على النجاة, وانسابا بحديث ممتع مع الوالد الذي وجد ضالته فيهما, كان عليٌّ يسمع حديث الحياة المسؤولة, حياة العبودية لله, لاللهوى ولاللمخدرات والغناء, ولاللهرب الرخيص منها, جدّد الوالد شعوره بالسرور لهما, فاستأذناه بالخروج, وقدّما لعليّ مجموعة الكتب التي جاءا بها له هدية على طريق التوبة, ودعوا الله له بتمام العافية والقيام بالسلامة. وأتمّا سيرهما دون أفق مكان عملهما في أقصى أكناف الجنوب. وتستقبلهما مشارف المدينة قبيل تلمّط أشعة غروب ذاك اليوم, وحيث تبتلعها أشداق ظلمة ليل أرخى سدوله على الكون البديع.

 طلب حسن من رشيد وهما يدخلان المدينة أن يمرا على بناء البريد ووقفت السيارة على الرصيف المعدِّ, ونزل حسن وهو يُخرج مفتاح صندوق بريده ليجد رسالة أخرى من والده , ولم يمض على وصول الرسالة التي قبلها إلا أسبوع سفره للعمرة . تهلل وجهه بإشراقة وردية, وارت بعض مالحقه من كدر دنيوي, ولم تمهله يداه, فقد فضّتا الرسالة وأخرجتا ورقتين مليئتين بالكتابة, إحداهما بخط أبيه الذي يميّزه من بين ألف خط , والثانية بخط أخيه وليد, وقد لمح توقيعه في أسفلها مضيفاً إلى اسمه الألف واللام.. الوليد.

يارب وراحت عينه تلتهم جمل أبيه وعباراته المتفردة بما لها من خصوصية , وليعلم توبة أخيه وإقلاعه تماماً عن كل العادات السيئة , ازدادت خفقات قلبه, وراحت البشارة تملأ مضارب أحنائه التي كانت تغرق بالحسرات,ويفتح الورقة الثانية ليقرأ مشاعر الوليد الجديد , وهو يعلنها توبة نصوحاً , ويخبره بأنه أحرق عشرات الأشرطة الغنائية وعشرات من أفلام فيديو كليب و... ويدفع الفرح حسناً بكل قوة إلى خارج المبنى ورشيد ينتظر خروجه فقد أبطأ الفتى , فطوت صفحة انتظاره إطلالة حسن وهو ينظر إلى السماء بشغف , وتتحرك شفتاه بكلمات لم يسمعها رشيد بالطبع , وإذ به يتوجه إلى الكعبة المشرفة ويخرُّ ساجداً لله التواب الرحيم.

يخرج رشيد من السيارة متعجباً من تصرُّف صديقه , ولكن العجب انقلب فرحاً آسراً لديه عندما علم من حسن كُنْه الرسالتين , وما فيهما من خبر التوبة الغضّة , وانجلاء زيف الحضارة عن عيني أخيه الوليد ..