وزغردت الأم للشهيد
عبير الطنطاوي
كان صغيراًَ يتمتع بمسحة من الجمال العربي .. أسمر البشرة مع عينين واسعتين سوداوين وشعر ناعم جميل وطول فارع وبنية متينة .. كانوا يدعونه (الزعيم) وأحياناً أخرى ينادونه (علي بابا) .. كان قوياً مع رقة في اللسان تقطر عسلاً .. وكان يلعب مع رفاقه على الساحل السوري الرائع .. يسبح ويمرح ويقوم بعمليات إنقاذ للجميع .. كل من عرفه يعترف أنه جريء .. محب للناس .. زعيم بكل معنى الكلمة .. كم كانت أمه تناديه بأعلى صوتها ليعود إلى المنزل لتناول الطعام .. وكم كان يترك والدته تحضّر له الطعام وتهيء المائدة الشهية ، لكنه يخذلها بطبيعته الصبيانية المرحة ليكمل اللعب .. وعندما بلغ سن الشباب كانت تقدم له كاسات الشاي والقهوة فيما هو يحضر لخوض الامتحانات .. وكانت الدراسة لا تحلو إلى نفسه إلا على الشاطئ الرملي الأخّاذ ، حتى أحبت أمه الشاطئ لأنه الصديق الصدوق الدائم لولدها .. كثيراً ما كانت تذهب إلى مدرسته وتدخل صفه أو تتلصص عليه من خلال نافذة الصف تراقبه .. تراقب حركاته وسكناته ، ضحكاته وعبساته وشقاوته المألوفة .. تراقب أصدقاءه لتسبر مدى محبتهم له ..
كانت سعيدة وفخورة به إلى أبعد الحدود فهو ولدها الحبيب (مروان) .. إنه أملها .. بل إنه ماضيها وحاضرها ومستقبلها .. كثيراً ما كانت تتمشى في ساحة المدرسة أثناء الامتحانات لتكون أول من يستقبله وأول من يفرح به بإجاباته الكاملة وأول وأول وأول من يحزن عليه من أجل إجاباته الخاطئة ..
ذات ليلة أحست الأم أن العالم قد غرق في بحر الظلام الدامس .. كان عمره ليلتها ثمانية عشر عاماً وإذا به يقف بطوله الفارع ويقول :
ـ أمي العظيمة .. قد عشت في ظل حبك ثماني عشرة سنة لم أعرف فيها أحداً أستطيع أن أحبه كما أحببتك أنت أما الآن فهناك من يشغل قلبي ويشغفني حباً ..
لم تعرف الأم أتبتسم أم تبكي ؟ أتفرح أم تحزن ؟ قالت بلهفة :
ـ ها قد غدوت رجلاً يا مروان وأصبح لديك من تحب .......
لم يبد جواباً .. وفي الصباح دخلت حجرته لتسقيه كلمات حبها وحنانها الفياض كما اعتادت .. ولكنها لم تجده .. لم تتمالك أعصابها من الخوف والهلع ولكنها ما لبثت أن هدأت ، فقد غدا رجلاً وسيد الرجال .. انتظرته ساعة واثنتين وعشراً ولم يأت ..
جاء اليوم التالي والليل الثالث والحبيب لم يعد .. بحثت عنه عند الرفاق والزملاء والأحباب .. بحثت في كل مكان ولكنه لم يعد .. وبعد شهر شارف حالها على الجنون .. جاء أحد رفاقه والتقم أذنها وهمس فيها كلمات كانت أشد عليها من وقع الصواعق المواحق .. ألقتها أرضاً .. وغدت طريحة الفراش .. وبعد أن استعادت بعض صحتها خرجت إلى البحر تتأمل فيه ، وبتلاشي موجاته أحست أن البحر قد غرق إلى الأبد بل إن بحار العالم قد غرقت غرقت مادام (مروان) لم يعد يقصده ولم تعد مياهه تبلل جسده .. ذهبت إلى مدرسته وتلصصت كعادتها على طلاب الصف .. وجدت مقعده خالياً إلا من الغبار والذكرى .. مشت في ساحة المدرسة بلا حبيب وبلا دمعة حزن وبلا فرح النجاح .. أحست أن المدرسة خالية من كل شيء فولدها قد ذهب .. رست سفينة دموعها على أحد أهدابها ونطق لسانها :
ـ أنت لله ثم للوطن يا ولدي .. والوطن أب للجميع .. وإن غرقت بحار العالم .. وإن خلت مدارس الكون .. وإن احترق قلبي .. وطنك يا مروان .. فلا تخذله .. عهدي بك قوياً مغواراً .. كن لله وللوطن .. فأرضه مجبولة بدماء أجدادك العظام ..
بعد أيام جاء ولدها مضمخاً بدمائه محمولاً على أيدي ثلاثة من الإخوان الشبان مثله ..
فزغردت الأم للشهيد وعلمت أن الوطن لا يطلب الشباب وحسب بل إن للأمهات الدور الكبير في مدرسة الوطن ..