مشهد رتيب
قصص على الهواء
هشام بن الشاوي
جيراننا البؤساء -عفوا الأعزاء!- يسألون أبي كلما التقوه:" لم لا يقعد ابنك في الدكان؟".
حل طوباويّ لمشكل شاب ضائع، كما الملايين. هكذا ببساطة، وكأنّ كل أحلامي أن أسجن خلف منضدة، وسط حي يقتات أهاليه على التدخل في خصوصيات الآخرين. لسوء الحظ أنني لست من هواة الاسترخاء على الكراسي و... !!.
"أبي بلا شخصيّة! لو كان رجلا حقيقيّا لصرخ في وجوههم: "راقبوا نساءكـ"ن" وبناتكـ"ن"، لا شأن لكـ"ن" به.. هو رجل في كل الأحوال"، قلتها لأمي، فاتهمتني بالوقاحة.
كلما رأيت ساعي البريد الكهل، بدراجته النارية الصفراء، وحقيبته الجلدية اعترضت سبيله، أسأله وهو يخترق شارعنا الكئيب إن كان في حوزته أية رسالة باسمي.. مكرهًا أخاطبه. إنه لا يبتسم أبدًا، مثل أبي تمامًا، وكأنّ كل هموم العالم اقتسماها سوية، أي بؤس باذخ أن "تصبّح" على سحنة عابسة؟! تفوو! حتى المباني في حيّنا متجهمة. وحدها جارتنا تطلق سراح عصافير ابتسامات جذلى كلّما لمحتني، وأنا أحاصر ساعي البريد، حين يقترب من أحد البيوت المجاورة.. تبًّا لهذا القلق، إنه يجعل الحياة بلا طعم، والنوم عصيّا، والزمن بطيئًا بشكل مقزز، فأثور في وجه أيّ كان، بلا سبب!!..
ابتسامات جارتنا صارت ذات معنى، وأنا أتجاهلها. تكاد تنقلب إلى ما يشبه ضحكة مكتومة، تخنقها بيدها البضة. أرجو ألا تسخروا مني إن صارحتكم بأني استفسرت عن هذه الابتسامات الحمقاء والحركات الغريبة، (لا أنكر أني غبيّ عاطفيًّا)، بيد أن صديقي الكاتب نصحني بأن أتفادى الأمر برمته، و أن أبحث عن أخرى، وقهقه، مشيرًا إلى نفسه بزهو:" ينصح الخبراء في هذا المجال بألا تصاحب بنت الجيران وألا تتزوجها أيضا...!!".
- أستاذ، ألديك اهتمام بالقصة؟
أوف !حكاية صديقي الكاتب جعلتني أخرج عن الموضوع، كالعادة. عمومًا، كثيرون لاحظوا أنني صرت شارد اللب، زائغ النظرات هذه الأيام... المهم، لم أهتم بجارتنا، لأن الحبّ يكون حلوًا في بداياته فقط، والعهدة على صديقي الذي يكتب قصصًا تشبه كتابات محمد زفزاف، ولا أريد أن يعكر الحب صفو حياتي، فيكفيني ما أكابد!...
***
أخيرًا... وصلتني دعوة لاجتياز امتحان. يا الله!!.
في أقل من ثانية، وجدتني أركض في الشارع بحثـًا عن رسالتي، التي قد تصل إلى عنوان آخر، خطأ... لم أنتبه إلى أنني كنت أركض في الشارع بثياب النوم، وسمعت ضحكات انفلتت، هذه المرّة، من جارتنا. لم أبالِ بها، ولم أنتبه إلى أنني انتعلت فردتي صندل مختلفتين وجدتهما أمامي، إحداهما لأمي والأخرى لأختي. لم أكن أبصر غير الكهل كئيب السحنة وهو يبتعد، وأنا ألعن اليوم الذي رأيته فيه، مرقت بجانبي سيارة، اصطدمتُ بمقدمتها. حاولت أن أواصل ركضي، لكن ألمًا فظيعًا استبد بركبتي، وفي المستشفى، لم أكن أفكر سوى في رسالتي الضائعة، وقد خيّم على روحي حزن طاغٍ، والطبيب ينصحني بملازمة الفراش، وعدم التحرك بسبب كسر ركبتي، وعلى شفتيه ابتسامة بلهاء، وفكرت في أن أسأله: لماذا تبتسم كأبله؟!.
يتأرجح جسمي الضئيل من فوق العكازين، تخترق مسامعي ضحكات من فوق الكراسي متشفيّة.. أتوقف برهة، وأنا أسمع ولا أسمع شيئـًا مما يقولون عني. ألتفت خلفي.. جارتنا الجميلة، وكذلك ابتساماتها المشرقة اختفت.. في ثرثرتهما الصباحيّة، أخبرت جارتنا أمي بأن جيراننا انتقلوا إلى مدينة أخرى.