الصفقة
م. محمد حسن فقيه
هناء فتاة شقراء ، قنواء العرنين فرعاء ، لها عينان نجلاوان دعجاء ، ووجنتان متوردتان حمراء .
وجيد أتلع طويل ، وكشح أهيف نحيل ، وصدر كاعب ريان ، وساقان لفاوان ممتلئان ، وقوام منتصب كعود البان .
كل ما فيها ينطق جاذبية ، يفيض أنوثة ويتفجر حيوية .
في نظرتها سحر وبريق يخطف قلوب الشباب ، وفي مشيتها خفة ورشاقة تسلب الألباب ، وفي تعطفها وانثنائها فتنة تطيش الصواب .
أضحت هناء حديث أهل الحي والشباب ، وفي كل يوم يتدفق إلى بيت والدها الخطاب ، يطلبون زواجها على السنة والكتاب .
ويخرج الفوج الأول ينتظر الجواب ، ليدخل الفوج الثاني والذي كان مرابطا عند الباب .
وتنتظر الأفواج الشهور بعد الأيام ، وليس هناك من وعد ولا كلام ، فإن والدها ما زال محجما عن الجواب ، لأنه لم يجد ما يناسبها من الخطّاب .
فهي رأس المال المنتظر، والكنز الثمين المعتبر، والثروة النفيسة التي لا تقدر .
وهؤلاء الذين يتقدمون ، أغلبهم دكاترة أو مهندسون ، أو تجار صغارأو موظفون .
وليس بينهم ما يليق بذاك الجمال الآسر ، والنجم الباهر ، والقمرالساحر.
وتتوالى الليالي وتمضي السنون ، والخطاب ما زالوا من حين إلى حين يتقدمون .
فكل أم تقنع ولدها بأنه قمر الزمان ، وفريد العصر والإيوان .
وكل فتى في نظر أمه بدر التمام ، وكل الشباب تتصاغر بجانبه إلى قرود وأقزام .
وأخيرا هبط الفارس المنتظر من السماء ، بسيارة طويلة ميساء ، برفقة أهله المترفين الأغنياء .
ترجل من السيارة بزهو وكبرياء ، وهو يميس ببذة نفيسة بيضاء ، ويتبختر بربطة عنق عريضة شهباء ، ويشمخ عاليا بنظارة عاكسة سوداء ، وبيده حقيبة دبلوماسية تليق بالنبلاء ، محشوة بوصفة الدواء .
هدية لوالد العروس ، من الدرر والجواهر والفلوس .
فهي العربون الكافي ، والثمن الوافي ، والبلسم الشافي .
إذ أيقن هذا الخاطب الحصيف ، كيف يخطف الرغيف .
ومن أين تؤكل الكتف ، وكيف يتغيرالجواب وينحرف .
وما إن رأى والد العروسة هذا الحشد الكبير، والجمع الغفير، وذاك العروس الوثير.
وتلك الأموال الكثيرة الضخمة ، والهدايا النفيسة الفخمة .
حتى خفق لها قلبه ، وانخلع لها فؤاده ، وانبسطت بها أساريره ، وانشرح لها صدره .
فقد وصل أخيرا النسيب المعتبر، والعروس المنتظر .
الذي لا ترد كلمته ، ولاترفض قرابته .
فالفوز به حلم كبير ، ومصاهرته غنم وثير.
وزفت هناء إلى العريس المقدام ، في أبهج حفل وأرفع مقام .
وعيون الحساد تحدق بهذا العريس ، كأنه مارد أو إبليس ، متمنية لهذه الصفقة أن تخيس .
لكن العين بصيرة ، وكذاك اليد قصيرة .
وطارت هناء مع حبيبها العريس ، إلى لندن وروما وباريس .
ليتمتعوا بشهر العسل ، في بلاد الأحلام والأمل .
بعيدا عن كل حاسد ورقيب ، لينعموا بصفاء الجو وقرب الحبيب ، وينهلوا من السعادة ما يلذ لهم ويطيب .
وعند المحطة الأخيرة في باريس ،ومع نهاية شهر العسل التعيس !.
كانت هناء قد تأقلمت ، مع طباع زوجها المحترم وتعلمت .
حضورالولائم و الحفلات ، وزيارة النوادي و"الكبريهات "، وتعلم السباحة والغنج والرقصات .
وعلى أنغام الموسيقى الصاخبة الخليعة ، وبين الأحضان الدافئة الرقيعة .
شرب العريس من الشراب ، ما لذ له وطاب ، حتى غاب عن الصواب ، وفقد تمييز الأعداء من الأصحاب .
وبعد أن عاد برفقتها إلى جناحه الكبير، في قصره الوثير .
هجم على الغندورة كالتنين ، وأوسعها ضربا بالشمال واليمين ، ثم حمل السكين ، وأطبق عليها حتى قطع منها الوتين ، وهو يصرخ بألم وأنين ، أتجلسين في أحضان المارقين ، يا ابنة الكلاب السافلين ، لأجعلنك عبرة للعالمين ، يا ابنة الملاعين الساقطين ! .
تهاوت الضحية ، على الأرض مسجية ، جثة هامدة مرمية ، كالشمع شاحبة مطفية .
تمدد المحترم فوق السرير، مرتاح البال هادئ الضمير، لا يسمع له صوت ولا همس ولا شخير .
حتى إذا أصبح الصباح ، وظهر الضوء ولاح .
وارتفعت الشمس في كبد السماء ، وألقت بخيوطها الذهبية الصفراء.
صحا عروسنا من رقاده الطويل ، وتلفت حوله فرأى الخليل ، في ذلك المنظر المروّع المهيل .
ارتاع لأول الأمر وارتعب ، وداهمه الهم والكرب ، ودون أن يكلف نفسه التفكير والتعب ، ليعرف كيف حدث الأمر وما السبب .
أيقن بنفسه على التمام ، أنه فعلها عندما كان في عالم الخيال والأحلام ، كما فعل قبلها من أيام ، وأن ما يراه أمامه حقيقة وليست بأوهام .
حمل الضحية إلى الحمام ، وأغلق عليها الباب بإحكام .
بعد أن نزع من يديها جميع الجواهر والنفائس ، التي ابتاعها من معرض العرائس .
نادى على الحاشية والأزلام ، من زبانيته وحراسه اللئام ، وأعطى تعليماته لتدبير الأمر بما يرام ، وإخفاء آثار الجريمة بالتمام ، ولا تلفت لريبة شك أو اتهام .
ثم أسرع إلى المطار ، عازما الفرار، وإلا فلن يقر له قرار .
بعد أن انتهى شهر العسل ، بهذا العمل ، من الجنون والخبل .
وبعد أن علم أهل العروس ، بعودة صهرهم المنحوس .
أسرعوا بسرور وابتهاج ، ليباركوا لابنتهم بالزواج .
ويسألوها عن أخبار البلاد العجاب ، ويستلموا هداياهم النفيسة في صدر البيت أو الأعتاب ، فإذا هم أمام وهم عريض بل سراب .
وبكل هدوء اعتذر عريسنا عن الاستقبال ، لأنه في حالة حداد وأتعس حال ، سارحا شاردا مشغول البال ، لما بذل في سبيلها من أموال، وتحمل من نفقات وهدايا وأثقال .
ولما حاول الأهل والأحباب ، أن يتسلقوا السور ويكسروا الأبواب ، تصدى لهم حراسه الأبطال ، فهددوهم بالضرب والإذلال ، وأبعدوهم عن السور في الحال .
صرخ فيهم من عل : ماذا تبغون أيها الأنذال ؟ وقد استلمتم ثمنها إلى آخر ريال .
ماذا بقي لكم عندي يا لئام ؟ أيها الأوغاد يا أبناء الحرام ! وانتهت القضية عند هذا الحد بسلام .
وعادأهلها إلى بيتهم خائبين، حائرين حزينين بائسين ، وهم يندبون حظهم اللعين .
في حين قام والدها التعيس ، يؤسس مشاريعه من ثمن دمها النفيس ! .
أما البطل الغني المترف اللعين ، عاد يبحث عن صيد آخر سمين ، ليلقي في شباكه مغفل آخر مسكين ، يتمتع بجمال شبابه ونضرته إلى حين ، ثم يكون مصيره كالسابقين .